وددت أن أقدم باقة التيوليب لوالدي في حفل تكريمه الذي أقامه سعادة الأستاذ عبدالمقصود خوجة، وأضمها بشرطة حمراء، لكن ضيق الوقت حال دون ذلك، وشعرت بأن هذه الحروف ستعاتبني إن جعلتها حبيسة الأدراج؛ فشرعت لها النوافذ كي ترى النور علّها توفيه حقه.
في البدء أتقدم بالشكر الجزيل للأستاذ الكريم عبدالمقصود خوجة الذي يتحفنا كلّ مرةٍ باحتفائه بهذه الكوكبة من كبار المفكرين ورجال الأدب، ولكونه أتاح لي فرصة للمرة الثانية لأنثر على أسماعكم حفنة من الكلمات عن والدي (الفتى مفتاح).
كنتُ أمسكُ بقلمٍ متعثر الخطى وورقة بيضاء ناصعة غرقتْ في نقطة حبر يسكنها الصدق والعفوية.. لهذا تمنيتُ أن أجد نفسي مرسومة بقلم رصاصٍ مدببُ الرأس.. له ممحاةٌ سحرية.. يمكنها أن تمحو أجزاء اعتدت حذفها من ذاكرتي، وربما ذاكرة التاريخ.
الفتى مفتاح علامة تَجربة ابتدأت بالكفاح والعناء والمكابدة.. دفعه طموحه أن يسدل ستار الماضي.. ويمضي في طرق مليئة بالمنعطفات والمنحنيات، لكنه أصرَّ على صعود الجبل مهما كانت النتائج.. في مضمار التحدي مع الذات.. وها هو اليوم يُكرم للمرة الثالثة في هذا المحفل الثقافي.. هذا الرجل الذي أسقته الأيام مرارتها هو اليوم أديب وكاتب ورائد ثقافي..
«لا شيء يقف أمام الطموح بتوفيق الله».. كانت هذه العبارة متكأ والدي «لأن السعي للكمال يجعل الإنسان لاهثاً عند كل منعطف».
فزمن عبدالفتاح معجون بالتعب والحلم معاً.. وأقرأ للدكتور صالح زيادة إذ يقول: «كان لقاء أبي مدين لقاء لجيل سمع عن رواد الصحافة والثقافة السعودية ولم يرهم، وقرأ نجاحهم ولم يعرفهم، وظنهم ماضياً انقضى فإذا هم بعض جلده ولحمه ودمه في الراهن الذي يوشك هذا الجيل أن تنغلق دائرة إبصاره في حدوده. حقاً للأساتذة جلالهم الذي تزيده الأيام ألقاً، والأستاذية هنا مركب لعِصامية تفعل ولا تنفعل، وتشارك ولا تستبد, وتحاور ولا تقصي، وتعمل ولا تتقوَّل، وتعي ولا تضل, وتطمح ولا تقنع، وتتفاءل ولا تيأس، وتبعث في الآخرين شهية العمل وإرادة الحياة». انتهى كلام الدكتور.
هذا الرجل في يومٍ ما غزاه الإحباط وغلبه الملل، واليوم أصبح كاتباً وإدارياً ناجحاً يدير بقناعة ويتبع في عمله وصايا رامبو.. ذلك الذي يدفعك دفعاً إلى أن تدخُل فيه عنوة ومن غير أن يكون لديك قدرة على الاختيار والتردد، تدخله وأنت مشدود..
عالمه يزدحم بأرتال الورق، وأقلام ملونة تستلقي فوق طاولته، والعديد من الكتب؛ ذلك كي يقول لنا «لا زلنا نعمل»، أما الوقت عنده فهو أضيق من الأحلام والأمنيات..
كتابه هو ذاك الصديق.. الذي يجالسه يمضي معه ساعات طوالا بلا كلل أو ملل حتّى ينسيه طعامه وشرابه..
في عملهِ تتدلى عناقيد أرقه.. لا شيء يوقف مدهُ، يبللنا برذاذه فنعود نسابق لهاثنا.
في صغره أمضى عمره في مقعدٍ.. وقاطرةٍ تقوده إلى الخلف.. هزائمه وحدها تأتي بعد الفرح.. قلبه يشتعل بضجيج العمل..
ولد في (الميزان).. برج متوازن مع الذات يعقل الأمور.. يعشق العمل حتّى النخاع..
ليس من منطق كل فتاة ب(أبيها)!! ولكن تدهشني إنسانيته التي تبدو كبتلات زهور تنمو على سطح الأرض..
هو رجلٌ بحجم السماء.. هذا هو الفتى مفتاح الرجل والإداري والأديب.. لا أملكُ في هذه الليلة إلا أن أهديه ياسمين قلبي وأدعو الله له أن يلُبسه حُللا من الصحة والسعادة ويحفظه لأنه نبع الحياة..
معذرة للإطالة ولولا ضيق الوقت لقلتُ الكثير، ولكن أكتفي بهذا وأترك الفرصة لغيري؛ فلديهم الكثير ليقال.
مرة أخرى شكراً للأستاذ القدير الشيخ عبدالمقصود خوجة ولأرواحكم التي أنارت بحضورها هذا المشهد الثقافي.. شكراً لأنكم حرضتم أجنحتي على التحليق عالياً.. واسمحوا لي أن أستلَّ من دفتر الأيام شمعةً وقلماً لأكتب على جدران هذا المساء خطاً هو يوم تكريم والدي.. شكراً.. ولكم ياسميني.