بين زحام الروايات العربية والسعودية على وجه الخصوص، أطل عبده خال بروايته «ترمي بشرر» بعد أخوات خمس قد سبقنها، ليقفز بها قفزة نوعية في مجال الرواية وليثبت علو كعب الرواية السعودية التي ظل الكثير إلى زمن قريب يرى عدم نضجها وعجزها عن مسايرة ركب الرواية العربية. جاء فوز «ترمي بشرر» ليعطي نجاحاً كان لا بد أن تتوج به مسيرة الروائي عبده خال الذي خاض غمار تجربة الرواية الحقيقية في ظل تجاهل النقاد لمنتجه حتى أثبتت «البوكر» أن نتاجه يستحق التوقف والدراسة وكسر سيادية الجوائز على فئة من الناس.
الثقافية باركت لخال ومن قبله للوطن بأكمله هذا الإنجاز واستطلعت آراء بعض النقاد والمثقفين حول «ماذا يعني فوز عبده خال بهذه الجائزة للمثقف السعودي وللرواية السعودية؟».
الثقافية - عطية الخبراني
يقول الناقد الدكتور معجب الزهراني: كان الخبر مفاجأة سعيدة حقاً، فعبده خال ليس الوحيد الذي يكتب روايتنا الجديدة التي دشنها غازي القصيبي، لكن المؤكد أنه الصوت الأكثر حميمية وواقعية وعمقاً وجرأة.
كلما قرأته تذكرت كلمة مالك حداد: «أنا لا أكتب بل أصرخ ألماً».
فالشروط التي يكتب فيها وعنها غاية في القتامة والهامشية والهشاشة والتفسخ، ونماذجه البشرية معتلة مختلة ترتكب معصية كل لحظة لأنها ضحايا لخطايا مجتمع لم يبتعد كثيراً عن تلك القيم الإنسانية التقليدية البسيطة التي كانت تؤسس علاقاته وتؤثث حياته في المكان والزمان بألفة ما، لكن المجتمع ليس هو الخصم الحقيقي لأنه هو ذاته بطل التحولات وضحيتها.
ويضيف الزهراني: لقد تفككت روابطه وتشظت قيمه وتشتت أفكاره بعد أن جرفته إبدالات التاريخ وتحولاته بعيداً عن علاقات التجاور والتعاطف إلى علاقات تمايز وتراتب من عادتها أن تثقل على كل من يسقط نحو القاع، ولأي سبب. نعم كتابة عبده خال ثقيلة على القلب حتى ليعجز كثيرون عن مصاحبتها حتى النهاية. كتابة سوداوية بامتياز.
ليس فيها ما يسر أو يضحك لأنها نتاج وعي حزين يقظ ليس من مهمته صناعة المتعة وإقامة الأفراح.
كأن الذات الكاتبة ما إن تتهيأ للكتابة حتى تجد نفسها أمام مفارقة مأساوية كبرى لم يعد ممكناً التهرب عنها أو نسيانها.
فهناك قلة تسبح في نعيم الحياة المكرورة البليدة بينما تغوص الأكثرية في الجحيم، وغير بعيد عن المسرح ذاته!
ويتابع الدكتور معجب بقوله: ولهذا السبب تحديداً كم تشبه كتابات أولئك المبدعين الكبار الذين ينصتون لأكثر الأصوات نشازاً وفجاجة وقبحاً لأنها الأكثر قدرة على إحداث الصدمة تلو الأخرى في الوعي العام عله يستيقظ فيتأنسن ولو قليلاً.
وأخيراً لا بد أن نعود إلى الخبر ذاته لنقرأ فيه أهم دلالاته. نعم، لقد تكرست المغامرة الروائية الوطنية في أعلى مستوى أدبي ممكن، أفلا يحق لنا أن نبتهج وننتظر المزيد من عبده وسلالة الصعاليك؟!.
فيما يرى الشاعر والروائي حامد بن عقيل أن فوز عبده خال كان مستحقاً، وكان بالنسبة له مطلباً هاماً من عدة أوجه، أولها وأهمها أنه عرى الاستطلاعات الصحفية المحلية التافهة التي أعقبت صدور الرواية وتحدثت عن الروايات بأسلوب تقويم مريض لا يدل إلا على شللية سقيمة، فترمي بشرر انتصرت للفن فقط بعيداً عن رهانات من يعتقدون أنهم عرابو الرواية السعودية مع أنهم لا يجيدون القراءة وإنما همهم الأول صناعة الإثارة الفارغة. أما ثاني هذه الأوجه فهو انتصار رواية خال للعمل الجاد والطويل والمضني لسنوات عدة، حين يقول البعض بأن كثيراً من المقالات كتبت عن إنتاج عبده الروائي، فإنني أقول الكثير لكنه لم يقرأ نقدياً حتى الآن بشكل لائق، فروائي المهمشين والعوالم السفلية يستحق القراءة النقدية الفاحصة والجادة لإنصاف مسيرته المثابرة. أما ثالث هذه الأوجه فإن خال كسر الفكرة السائدة لدى كثيرين من السعوديين الذين شككوا بالجوائز العربية، أو لدى كثير من العرب الذين شككوا في الأدب السعودي.
ويختتم عقيل حديثه قائلاً: خلاصة القول، وأنا أبارك لعبده خال هذا الفوز المستحق، أقول: كانت جائزة البوكر مستحقة لخال ولروايتنا المحلية، وإن كانت صادمة لبعض صحفيينا من مثيري السقم الذين آمل أن يخرسهم هذا الفوز للأبد.
أما رئيس نادي الرياض الأدبي الدكتور عبدالله الوشمي فيرى أن الروائي عبده خال يمثل أحد أهم الأسماء في كتابة الرواية العربية، وهذه الرؤية لا تتصل بالفوز، أو ليست نتيجة عن الجائزة، بل إن فوزه بالجائزة يعد نتيجة طبيعية لهذا الرأي.
ومع أن قناعة الإنسان لا تتغير، وإيمانه بالتميز الفني الذي يحققه بعض الأدباء على مستوى التعاطي مع المادة الفنية لا يتراجع، إلا أنه يظل بحاجة إلى ما يؤنسه أو يؤكد من قناعاته، وهذا الأمر تمثل في البوكر التي نالها الروائي عبده خال بجدارة ضمن سباق طويل من الإبداع والتميز.
ويضيف الوشمي: مسيرة عبده خال الروائية بخمس روايات: (الموت يمر من هنا) و(مدن تأكل العشب) و(الأيام لا تخبئ أحداً) و(الطين) و(فسوق) و(ترمي بشرر)، والحضور النوعي له في الثقافة المحلية، والكتابة اليومية في عكاظ، ومسارات إبداعية أخرى في القصة القصيرة، كلها مؤشرات على تميز نوعي عنده، مهما اختلف حوله المنتمون إلى الأطياف كلها، فيظل التأكيد الذي لا يختلفون عليه أنه قدم نصاً يستحق أن يقال حوله الكثير والكثير, وتظل الطموحات كبيرة في أن يتجاوز إبداعنا المحلي (الشعر والقصة والرواية) عنق الزجاجة التي وضع أو وضعناه أو وضعوه فيه، لا فرق، وأن يجد المتنفس له من خلال مسارات إبداعية وتوزيعية وترجمة متنوعة. وحين يأتي عبده خال ليفوز بالبوكر، وهو من الخليج، فذلك كسر أو مشاغبة للنمط وللعرف التي اعتدنا من خلاله أن تذهب الجوائز إلى جهة أو جهات محددة.
ويختتم الوشمي بقوله: مؤكد أننا لن نختلف حول عبده خال فنياً، ولكننا كذلك لن نختلف حول مجموعة أخرى بدأت تأخذ شكل الظاهرة، وهي أن في الشعر والقصة والرواية السعودية ما يدهش بالفعل، وما هو قادر على أن ينافس بقوة، وتبقى الآمال معلقة على آليات مبتكرة في التسويق والإنتاج الإعلامي.
من جهته يقول الناقد الدكتور حسن النعمي: يأتي فوز عبده خال بجائزة البوكر للرواية تتويجاً له بوصفه روائياً، وتتويجاً للسياق الذي تولدت منه تجربة خال. فالمتأمل في المشهد الروائي يلحظ التحول الجذري الذي أصاب مسيرة الرواية في منتصف التسعينات الميلادية. فبعد أن شهدت تاريخ الرواية السعودية نمواً متباطئاً لأسباب أدبية تتعلق بهيمنة الشعر ودراسته ومدى حضوره في السياق الثقافي، واجتماعية تتعلق بالفضاء الاجتماعي المحافظ ومحدودية قدرة الكتاب على تناول الموضوعات الجاذبة لفن الرواية.
لقد شكل منتصف التسعينات الميلادية منعطفاً روائياً لا يمكن تجاهله، فقدم القصيبي وتركي الحمد وعلي الدميني أنفسهم بوصفهم روائيين، وقدموا روايات كانت صادمة في حينها، وخاصة أعمال الحمد التي شاغبت المسكوت عنه لأول مرة في سياق الرواية المحلية. في الفترة ذاتها يتقدم عبده خال وهو يقف على أرض قصصية صلبة تختلف عن الأرضية المستعارة للحمد والقصيبي والدميني، الأول عرف بكتابة الرأي والأكاديمة والآخران عرفا بالشعر. قدم عبد خال (الموت يمر من هنا) لتكون شاهدة على ولادة الرواية المختلفة والمدهشة. ومنذ أعماله الأولى ظل وفياً وملتزماً بالانشغال بالهموم العظيمة للفئات البائسة.
ويتابع النعمي حديثه: ولا تختلف روايته الأخيرة (ترمي بشرر) الحاصلة على جائزة البوكر العربية عن القيمة الأساسية في فكرتها، فهي مزيد من إلقاء الضوء على عذابات الفئات المطحونة والمحبطة والمهمشة. ولعل الفارق في هذه الرواية عن غيرها من أعمال عبده خال أنه وصل فيها إلى ذورة حساسية الموضوعات الروائية عندما تناول خطر تلازم السلطة والفساد. أما على الجانب الفني في هذه الرواية فهي نموذج يشهد على تطور الرواية وقدرتها على تمثيل الرواية العربية وليس المحلية في المحافل الثقافية العالمية. عبده خال كاتب أخلص للفئات الدنيا بإيقاع جمالي فذ، وأقنع متابعيه بعدم ركونه إلى صيغة جمالية مكررة في أعماله، بل ظل في كل رواية يجرب ويرتاد أفاقاً جمالية وتشكيلات سردية متجاوزة.
وعن «ترمي بشرر» يقول الدكتور النعمي: ورواية ترمي بشرر تذهب بعيداً في تغيير إستراتيجيات القص، وفي تصعيد الخطاب الروائي الموضوعاتي، فلعبة التكسير المشهدي للزمن الروائي كانت سمة بارزة، والاشتغال على ثلاث شخصيات بمستويات مكثفة تعتبر تجربة فنية جديدة غير مسبوقة في أعمال عبده خال من قبل، ورغم أن الشخصية الأبرز هي شخصية طارق، فإن الرفاق الثلاثة الذين خرجوا من الهامش إلى منطقة القصر يعتبر تكثيفاً لفداحة الخسارة التي منيت بها هذه الشخصيات، وخاصة عندما يضطر الصديق إلى النيل من صديقه تحت وطأة الجبر والإنكسار. كما يمكن أن يضاف إلى نجاحات الرواية لغتها الراقية التي تفوق فيها عبده خال، وربما تجاوز بها أعماله السابقة، وخاصة الجانب الوصفي منها. فرغم طبيعة الموضوع الحادة فقد ظلت اللغة إيحائية بقدر كبير ولم تسقط في المباشرة رغم السمة الواقعية التي غلبت على الرواية. أما الخروج وحسن التخلص التي قدمتها الرواية فتعد إضافة حقيقية ربما غير مسبوقة في الرواية العربية، وربما فرضت طبيعة الموضوع الاستثنائية آليات هذه التجربة.
وفي نهاية حديثه عن خال يقول النعمي: إن فوز عبده خال بجائزة البوكر هو تأكيد على تطور الرواية السعودية، وعبده خال عمدة في صناعته، أصيل في مساهمته، ومحرض على التجاوز الفني لجيل كامل من الكتاب والكاتبات. بالتأكيد لن يتوقف طموح خال عند هذه الجائزة، لكنه يحتاج إلى التجاوز، وهذا يتطلب من عبده قراءة السياق المختلف من حوله، فلم يعد بعد اليوم كاتباً محلياً، بل أصبح عربياً باتساع رقعة حضوره العربي، وعالمياً بالاهتمام بترجمة أعماله وتقديمها لقراء من ثقافات مختلفة.