قد يفاجأ بعض المحبين والمتابعين لمسيرة «محمد العلي» الثقافية والشعرية، من قلّة حصاد السنين حين يطلعون على المجلدات الأربعة التي صدرت من مختارات أعماله، ليتساءلوا: هل هذا هو» محمد العلي «الكاتب والشاعر» المتواصل العطاء «على صفحات جرائدنا ومجلاتنا خلال أكثر من خمسة وأربعين عاما ً؟
هل هذا هو كل ما أنتجه ذلك المثقف الذي سمعنا عن محاضراته وكتاباته؟
وهل هو الشاعر الذي اجتمعت حوله آراء كثير من الكتاب والمبدعين بأنه «أب الحداثة الشعرية في المملكة»؟
لا شك أنها أسئلة مقلقة ومشروعة أيضاً، ولكنني سأرجئ الإجابة عليها قليلاً، ولكي أعزز مشروعيتها، سأسترجع من الذاكرة البعيدة والقريبة ما يلي:
أ - عبّر لي الدكتور عبد الله الغذامي أكثر من مرة عن احترامه لأستاذية « محمد العلي « وشعريته.. ولكنه يأسف لعدم مبادرته إلى تدوين مشروعه الثقافي والشعري ونشره للقراء، لكي يخط موقعه الأعمق في حياتنا الثقافية والشعرية.
ب - في احتفائية ديوانية «الملتقى الثقافي بالقطيف» ب»محمد العلي» في أبريل من عام 2009م، كنا أمام قراءتين محبتين لشعرية نصه، عبر في إحداها الدكتور سعيد السريحي عن رغبة جمالية متألقة في أن يبقى شعر «محمد العلي» نصاً بعيداً عن القيد و الحضور المادي المباشر بين دفتي ديوان، حتى يتحاور فيه الناس، كنص وكأسطورة عصية على قيد التدوين، لكي نحفظ للشاعر ما صنعه شعره فينا وما خلقته مخيلتنا له، من جماليات حضور وغياب ملتبس بإيهام علامات الحلم والتشظي والرمزية التي لا تتجمع حالتها الشعرية لديك بنفس الدرجة مرتين!
أما الدكتور سعد البازعي، فقد تجاوز ضفة جمالية الغياب إلى متعة الافتتان ب «حضور» النص المدون، عبر قراءته الموسومة ب « شعرية الماء « في قصائد محمد العلي، مشيرا ً في تعقيبٍ تالٍ إلى أن النص المدون سيحتفظ بإمكانات قراءته كنص حيّ محفز على مقاربته والتحاور الجمالي معه في زمننا الحاضر وفي أزمنة الأجيال القادمة!
وقفة أمام أبواب الأسئلة:
وإزاء هذه الأسئلة، وأسئلة بعض محبيه، ليس حول شعره و ريادته «الشعرية»، وإنما حول قلّة عدد النصوص الشعرية المنشورة في ديوانه «لا ماء في الماء»، سوف نستعيد موقف «محمد العلي» الذي يرفض دائماً وبشكل جازم نشر نتاجه الثقافي أو الشعري في كتاب، ومن ذلك إجابته على السؤال التالي لمجلة «النص الجديد»:
هناك كثير من أوجه الشبه بينك وبين حمزة شحاته... ومنها أنه كان زاهداً في الشهرة والبروز، ولم يصدر له في حياته أي كتاب أو ديوان، وأنت ما زلت عازفا عن نشر دواوينك الشعرية ومحاضراتك الأدبية والفكرية، ونتساءل: إلى متى تود أن يظل هذا الشبه بينكما في بعض الخصائص مستمراً؟
وقد أجاب: يفرحني فرح العاشقين ان يكون هناك (وجه شبه) بيني وبين حمزة شحاته.
أما إلى متى (سيظل الشبه هذا في بعض الخصائص مستمراً) فاعتقد أنه سيبقى، لأن حمزة شحاته قد مات. وأنا لن أتغير إلا إلى الأفضل إن شاء الله، وكلما تغيرت إلى الأفضل، كان وجه الشبه بيننا أوضح وأكمل. (النص الجديد - العدد الأول - 1993م)
لماذا إذن هذا الإصرار العنيد؟
أعتقد أننا سنجد الظلال الخلفية لهذا الموقف فيما يلي:
لقد كان المناخ الثقافي والاجتماعي في «النجف» ثم بعد عودته إلى «الدمام» - آخذين بعين الاعتبار رمزية مكان المدينتين في تلك المرحلة - عاجزاً عن الوفاء بمتطلبات الحد الأدنى لحرية التعبير والإبداع والتحفيز، ولذا لم يذهب إلى الاشتغال على مشروعه الثقافي والتنويري كما يتمنى مبكراً، وترك نتاجه مبعثراً في الصحف والمجلات من (اليوم إلى الرياض، واليمامة والجزيرة، إلى عكاظ والشرق الأوسط والحياة، وإلى القبس والوطن الكويتيتين، وغيرها).
وكنت أشعر دائماً بالحزن لهذا الغياب مثلما كنت أستشعر الخجل عن عدم قيامي بمهمة من أي نوع لجمع ما أستطيع من نتاجه، والقيام بنشره في كتاب، ولكنني بعد أن اطلعت على المجلدين الضخمين الذين أعدتهما الأستاذة عزيزة فتح الله (بدعم لا محدود من زوجها، رجل الوفاء النادر في حياتنا الثقافية، الأستاذ محمد القشعمي)، سكنتني غبطة متدفقة وفرح مطري حميم.
أما بعد أن توفرت أمامي جل أعماله؛ حيث استكملت عدة جهات وشخصيات ثقافية أخرى (خلال العام المنصرم 2009م) إصدار ثلاثة أعمال هامة هي: مختارت شعرية مسجلة بصوته(على قرص سي.دي) عن نادي حائل الأدبي، و مجلد ديوانه الشعري بعنوان « لا ماء في الماء» عن النادي الأدبي بالشرقية، ومجلد ثالث ضم عدداً ضخماً من مقالاته تحت عنوان «كلمات مائية» وعمل على جمعها ونشرها كإصدار خاص الأستاذان محمد عبد الوهاب الشقاق، وحمزة حسين الحمود الشقاق، فإنني لن أكتفي بالتعبير عن مدى الابتهاج بما بين يديّ من أعماله، وإنما سأرى في هذه الإصدارات الخمسة، ما يشكّل ملامح ومرتكزات واستهدافات مشروع «محمد العلي « الثقافي والإبداعي، حتى وإن بدت «قليلة الحجم»، أو عبنا عليها افتقارها إلى منهجية تأليف «كتاب»، أو ما ورد فيها من أخطاء مطبعية كثيرة، أو اكتفائها بأن تكون كتاباً تجميعياً لمختارات من مقالات، أو محاضرات عديدة، كتبت في ظروف وأزمنة مختلفة!
لقد قرأت هذه الإصدارات الخمسة من نتاج «محمد العلي» خلال الوقت الذي أخصصه للقراءة الحرة على مدى عدة أشهر، و أود أن أشير للأصدقاء الذين قد يفاجئهم «قلةّ حصاد السنين»، أن كاتبنا - لمن لا يعرف كتاباته جيداً - يتوفر على موهبة متفردة في الحديث والكتابة و الإبداع تتسم بأسلوب الإيجاز و التكثيف مع الاحتفاظ بعمق البحث واتساع عيني الرؤية.
وهنا، يمكن لي أن أذهب مطمئناً إلى القول بأن جلّ مقالاته القصيرة، ما هي إلا تلخيص مكثّف لمقالة طويلة، وأن أغلب مقالاته الطويلة كانت خلاصة مركّزة لبحث أو محاضرة.
أما كل محاضرة من محاضراته فيمكن أن نقرأها كمؤلف «مختصر « في حقله، حيث حفلت تلك المحاضرات بالعمق المعرفي، وبالمقاربة المنهجية، وبالحوارية التي تتعالق بين السؤال الواضح، والإجابة المفتوحة على إمكانيات الشك والنقد والمراجعة، وباشتمالها على تعددية الرؤى المختلفة التي يوظفها لإغناء مركزية السؤال وفتح أبواب الإجابة على سعة الإمكان، بما يحرض القارئ على طرح المزيد من الأسئلة، وتكوين رؤية منفتحة باتجاه المستقبل.
شاعر انفعالي ومفكر متأمل!
وحين نأتي على موضوعة « قلّة نتاجه الشعري»، وهي مدار تساؤل بعض محبيه عقب إصدار ديوانه، فإنني سأستحضر بعض إجابات شاعرنا على نفس التساؤل الذي تكرر من قبل، حيث أوضح في أكثر من حوار بأنه «شاعر انفعالي « لا يكتب قصائده إلا استجابة لتلك الحالة، كما ألمح إلى انه من جهة أخرى لم «يجيّل نفسه «، ضمن جيل أو مرحلة، ولذا غاب عن اهتمامه الذاتي حافز الحرص على الحضور الشعري الدائم.
تلك إجابات الشاعر..
ولكنني سأضيف إليها التالي:
شاعرنا مثقف طليعي مهموم بقضايا ثقافية واجتماعية وفكرية عميقة، تشغل حيّزاً كبيراً من زمنه المخصص للقراءة والمتابعة، كما أنه ملتزم بكتابة زوايا صحفية يومية أو أسبوعية منتظمة، وهذه الانهمامات تفرغ كثافة الشحنات العاطفية المحرضة على كتابة القصيدة، ولذا تغدو تلك الحالة الشعرية الانفعالية المنشودة نادرة أو متبددة الحضور. ذلك أولاً..
أما ثانياً، فإنني سأحاول مقاربة الإجابة الموضوعية على ذلك التساؤل - من وجهة نظري - فيما يلي:
حين يخلص أحدنا للخروج من أسر ما تحتفظ به الذاكرة من مخيال شعر «محمد العلي»، ويذهب إلى قراءة مجلد»ديوانه الشعري « كاملاً، فإنه سيقف على تجربة شعرية ثرية ومتفردة، ومدهشة أيضاً. وسيعيش مع تجربة أنتجها الشاعر عبر رحلة زمنية تجاوزت الخمسين عاماً، وتدرج في معتركها الشعري من محاضن التجديد والحداثة الشعرية العربية في تراث أبي تمام وأبي نواس والبحتري والمعري، والمتنبي، وجاوزها بالإفادة من بعض مقومات المرحلة الرومانسية (في اللغة، وفي بروز الفردانية والحرية)، وانحيازه بعد ذلك إلى فضاء الحداثة الشعرية عبر كتابة قصيدة التفعيلة، فأبدع قصائد مدهشة تهيؤه لأخذ موقعه كواحد من أبرز شعرائها، لا على المستوى المحلي وحسب، ولكن على مستوى العالم العربي.
كما أن روح الشاعر الجذلة بالشعر، كانت دائماً تواقة لحراك التجديد والتغيير، في أبعادها الدلالية والجمالية، ولذا نجد شاعرنا قد أبدع، ضمن مراحله الشعرية المتعاقبة، قصائد امتدت من القصيدة العمودية، إلى قصيدة التفعيلة، وحتى كتابة قصيدة «النثر».
ويمكنني أن أصطحب معي الرأي النقدي الذي يرى بأن كثرة النتاج الشعري ليست مقياساً للتميز والحضور الشعريين، لأن قصيدة متفردة واحدةً تكفي لنحت صورة شاعرها في الذاكرة والوجدان، ويكفينا تمثيلاً لذلك الإشارة إلى معلقة «الحارث ابن حلّزة»، بيد أنني فوق هذا وذاك سأقول، وبيقين أبيض، بأن كل مجموعة صغيرة من قصائد «محمد العلي» تشكّل ديواناً شعرياً بحد ذاته، وأن هذا المجلد الذي ضمّ أغلب قصائده، يحوي ما لا يقل عن خمسة دواوين شعرية، تعبر عن مراحله الشعرية الخصبة، وتؤهله لأن يكون - وهو بالفعل كذلك - علماً شعرياً شديد التميز و الخصوصية في الساحة الشعرية العربية المعاصرة.. (وسوف أتحدث عن ملامح ذلك التميز في مواضع أخرى من هذه القراءة)..
الدمام