نحن جيلٌ تربّى في طفولته على ثقافةٍ مركّزة (إعلامياً). لم تكن متنوعة مفتوحة كما هي ثقافة الأجيال الجديدة، ولم تكن محدودة ضيقة كما ثقافة الأجيال القديمة.. الآن نستطيع أن نسمّي جيلنا (جيل الوسط) بين الأجيال التي على قيد الحياة الراهنة.. فجيلنا هو الجيل الذي نما طفلاً يشاهد التلفزيون أبيضَ وأسودَ ثم ملوّناً ولكن بقناة واحدة فقط. يندهش وينسجم ويستغرق في متابعة الرسوم المتحركة (الأفلام الكرتونية) ثم ينثني على قراءة القصص التي سادت في تلك الأيام، وأشهرها على الإطلاق: (المغامرون الخمسة) لوزة ونوسة وعاطف وتختخ ومحب!، ثم (الشياطين ال 13) بعبارتها الشهيرة: أينما كنت من هذا العالم، لن تنتهي بك الحياة قبل أن تلتقي بالشياطين ال 13 وتعيش معهم تجربة!. وهما سلسلتا ألغاز بوليسية عرفتُ مؤخراً أن مؤلفهما (الأديب المصري محمود سالم) لا يزال على قيد الحياة حتى اللحظة، يقرأ ويتابع كل جديد بعد أن اعتزل الكتابة مُحبطاً بسبب مضايقات تعرّض لها من بعض مجايليه الذين يقلون عنه موهبة ولكنهم يفوقونه شهرة لأسباب كثيرة ليس من بينها الإبداع.. وقد تألمتُ حينما قرأتُ في حوار له نُشر مؤخراً أن الأديب أنيس منصور عندما عيّن مسؤولاً عن دار المعارف (الناشرة لسلسلة قصص محمود سالم) قرر تخفيض نسبة المؤلف من أرباح المبيعات، حيث كانت10% فجعلها 8% ولم أجد تبريراً لذلك غير المضايقة.
فمحمود سالم الذي أثرى طفولة أجيال عديدة، وكان يرفض نشر صوره في الصحف أو ظهوره على الشاشة، هو للأمانة الأدبية والتاريخية: لا يستحق مثل هذه المضايقة، بخاصة إن جاءت من أديب مثله - وإن كان الأخير لم يشتهر إلاّ على حساب علاقته ب(صالون عباس العقاد)!
أعود إلى جيلنا والثقافة التلفزيونية التي كانت مؤثرة في طفولته ولا يزال تأثيرها آخذاً مكانه في الذاكرة، ذاكرة جيل بأكمله وليس فرداً واحداً أو حتى مجموعة قليلة منه، فالأفلام الكرتونية على الشاشة الصغيرة كان لها مكانها من الاهتمام والمتابعة في الحياة اليومية لكل طفل، وهذا الاهتمام لم يختلف عند الأجيال الجديدة ولكن الاختلاف في نوعية الأفلام والمسلسلات، وفي تنوعها وكثرتها بحيث أصبح من الصعب أن يجتمع كلّ أبناء الجيل على متابعة برنامج واحد..!
أما بالنسبة لجيلنا، فصحيحٌ أن معظم تلك الرسوم المتحرّكة كانت تُعرض باللغة الإنجليزية، ولكن سرعان ما أتتنا (الدبلجة) بأصوات ممثلين كبار، كاللبناني عبد المجيد مجذوب والأردنية عبير عيسى وغيرهما.. وصرنا نتابع ونتعايش.. فلقد تعلمنا الشجاعة والثقة بالنفس من (الليث الأبيض) الذي كان يعتمد على نفسه ويغامر وحيداً من أجل حماية كلّ الكائنات الحية في الغابة..
وتعلمنا مميزات البراءة واللطف والطيبة من مسلسل الغابة الخضراء (سنان يا سنان يا أحلى الأصدقاء)!
وتعلمنا الحبّ الطفوليّ النقيّ من أحلى نحلة.. زينة (أنا زينة الجميلة.. وحدي في البساتين)!
وبشّار الذي كان يبحث عن أمّه (تأتي مع السحاب..)
لم نكن صغاراً جداً، لهذا كنا نأخذ المعاني العميقة والعبر التي توسع مداركنا بكل ما هو محيط بنا..
المطربة السورية أصالة نصري، وهي من جيلي (مواليد 1969) كانت في السابعة من عمرها وكان يسمعها كل الأطفال العرب تغني مقدمة المسلسل الكرتونيّ المدهِش والمُتقن جداً: (في قصص الشعوب)..
الرابط الذي كان يجمع جيلنا هو أحادية المصدر.. فلم يكن ثمة تعدد، التلفزيون واحد والإذاعة واحدة والجريدة - لكل منطقة - تكاد تكون واحدة أيضاً!
لحظة ولادتي أنا، من بطن أمي - رحمة الله عليها- كان التلفزيون السعودي يعرض الحلقة الأخيرة من المسلسل العربي (اليد الجريحة) بطولة عبد المجيد مجذوب؛ فمن ممن كانوا معاصرين لتلك المرحلة (قبل أربعين سنة ميلادية وخمسة أشهر) لم يكن يتابع تلك الحلقة؟!
وعليه فالجميع ممن يتذكرون تلك الحلقة سيعرفون تماماً توقيت تلك اللحظة التي جئتُ فيها إلى الدنيا، بكلّ أجوائها ونكهة تفاصيل محيطها.. وسيستغرب الآن من يتذكر تلك الحلقة كيف أن الزمن يجري بسرعةٍ مهولة!
يا الله..
كم أنا ممتنٌّ لطفولتي الممتلئة بثقافةٍ تمتاز عن غيرها بالذكريات المشتركة مع من لا نعرفهم ولا يعرفوننا.. يجمعنا حنينٌ مشتركٌ إلى ما كنا نتابعه بشغف..
لم تكن الجهات الثقافية تعنى بالطفل كما هي اليوم، بل كنا ننتزع الثقافة التي نريدها من بين التسلية التي يريدونها لنا.. نتوجه إليها دون توجيه من أحد!
كنا نتابع بشغف افتتاح التلفزيون السعودي بتلاوة من القرآن الكريم بصوت الشيخ عبد الله خياط - رحمة الله عليه- وكنا نحاول تقليد طريقته المميزة في القراءة.. وأذكرُ أنني حفظتُ غيباً أكثر من نصف المصحف الشريف في تلك الفترة، ومن دون دراسةٍ بل بالإنصات..
وهنا سأسجّل لأوّل مرّة، أن طريقتي الحالية في قراءة (أو إلقاء) قصائدي، والتي انتقدني
فيها بعضُ المتابعين لأمسياتي بسبب سرعتي في القراءة - رغم إعطائي لكلّ حرفٍ حقه من النطق.. أقول: السبب في ذلك هو تأثري بتلاوة المقرئ الشيخ عبد الله خياط، رحمه الله، فقد أعجبتني طريقته السريعة منذ طفولتي ولازمتني حتى الآن..
أتساءلُ: هل مرّت طفولةُ الأجيال التي كانت قبل جيلي، أو التي جاءت بعده، بمثل ذلك الزخم الأحفوريّ الضارب عميقاً في الوجدان؟
فيا الله.. يا الله..
كم أنا الآن.. أجدني ممتناً لطفولتي، ومديناً لها، وفخوراً بها..
إنها طفولةٌ مثقفة..
إنه جيلٌ مثقّفٌ بالحنين والذكريات والمعاني الكبيرة والقيم النبيلة النقية الراسخة، وقد أعادني إلى ذلك كله وأكثر.. أعذبُ صوتٍ لمستهُ بأصدق حواسّي، في إحدى إغفاءاتي الحالمة: (وحدي.. في البساتين).!
الرياض
f-a-akram@maktoob.com