كُلَّمَا قُلتُ: مَتى مِيعَادُنا؟
ضَحِكَت (هِندٌ) وَقَالَت: بَعدَ غَد!
عاش الشعراء المحبون هموماً وأحزاناً أنتجت كثيراً من (نصوصهم)، وجعلوا (أبياتهم) مستودعاً لمعاناتهم وآلامهم، وكانت (أبرز) هذه الهموم ذلك (التأجيل) (المستمر) الذي يلقاه (الشاعر) الولهان من (المحبوبة)، وتلقي (الوعود الزائفة) و(المواعيد الموهومة) (للقاء المنتظر) الذي يُفترض أن يُنهيَ الشاعرُ به معاناته (المرحلية) إلى الأبد، حيث إما (الاهتداء) أو (الانتهاء)؛ ولذلك فلا عجب أن تجد شعرنا العربي مليئاً بهذه (المكاشفات)، ولا غرو أن تجد (المبدع) صاحب التجربة الحزينة يؤكد على هذه (القضية) ويردد هذه (الفكرة)، ويفصح للمتلقي أنَّ (معاناته) في الوقت الحالي تتمحور في هذا (الانتظار)، وتتركز في هذا (التأجيل)، فهذا (عمر بن أبي ربيعة) يشتكي إلينا (هنداً) حين علم أنه وقع في (فخ) (التأجيل) (المستمر) الذي يلقاه منها:
لَيتَ (هِنداً) أنجزتنا مَا تَعِد
وَشَفَت أنفُسَنَا مما نَجِد
كُلَّمَا قُلتُ: مَتى مِيعَادُنا؟
ضَحِكَت (هِندٌ) وَقَالت: بَعدَ غَد!
وهذا (بشار بن برد) يتنبه إلى هذا الأمر، ويبث همه حين أيقن أنَّ المسألة تحولت إلى (مماطلة) دون (طائل)، من خلال (صمتٍ) عميق، دون (جوابٍ) دقيق، أو (وعدٍ) رقيق:
وإذا قُلتُ لها: جُودِي لَنا
خَرجَت بالصَّمتِ عَن (لا) و(نَعَم)!
لكنَّ بعض الشعراء (أحسَّ) ب(التلاعب)، و(شَعَر) بأنَّ الأمر فيه (إنَّ)، فألمح أنه عرف (اللعبة)، وأدرك (الحيلة)، بيد أنه اكتفى ب(التذمر) من هذا (التأجيل) لعل المحبوب يُحِسُّ به، فيرى بعينه هذا (الغد) (الموعود) قبل أن (يفنى الزمان):
فِي كُلِّ يَومٍ قَائِلٌ لي: فِي غَدٍ
يَفنَى الزَّمَانُ وَمَا تَرى عَيني غَدَا!
أسترجعُ هذه (الفكرة) كلما نظرتُ في واقع بعض (المبادئ) التي فرضها نقد (ما بعد الحداثة) على النقاد حين التعامل مع (النصوص الإبداعية)، أو التعاطي مع (الدلالة) و(إنتاجها) ومحاولة (الكشف عن المعنى) الذي يود (المبدع) إيصاله إلى (المتلقي).
فمن المبادئ التي يتكئ عليها المنهج (التفكيكي) -وهو من مناهج (ما بعد الحداثة)- النظر إلى المعنى على أنه في حالة (التباسٍ) (مستمرٍ) و(غيابٍ) (دائم)، والتعامل مع (الدلالة) على أنه من (غير الممكن) الوصول إليها، و(افتراض) أنَّ ما يحمله (النص الإبداعي) هو في الحقيقة مجرَّد معانٍ (عائمة) ودلالاتٍ (غائمة)، وكلُّ محاولةٍ للوصول إلى (المعنى المراد) و(الدلالة المقصودة) هو ضربٌ من (المستحيل)، ونوعٌ من (العبث) الذي لا (طائل) من ورائه، وكذلك يفعل أصحاب نظرية (التلقي) التي (تتقاطع) في أغلب مبادئها مع أصحاب منهج (التفكيك).
وهم لا يقصدون بهذه (الاستراتيجية) أن (الدلالة) معدومة و(المعنى) غير موجود في (النص الإبداعي)، بل يرون أنه موجود في الحقيقة، لكنه يعاني من مشكلة صغيرة، تتمثل في كونه (مؤجلا باستمرار)، وكلما (توقع) (القارئ) أنه توصل إلى (المعنى الحقيقي) و(افترض) (المتلقي) أنه وجد (الدلالة المرادة) التي يحملها (النص) خابَ (توقُّعُه) وجانبَ الحقيقةَ (افتراضُه)؛ لأنَّ (المعنى) الذي يبحث عنه (مُرجأٌ) بشكل (دائم)، و(الدلالةَ) (مؤجلةٌ) بصورةٍ (مستمرة)، ويجب عليه أن يعرف هذا قبل أن يمارس (القراءة النقدية) للنص، وقبل أن يبدأ رحلة البحث عن المعنى في فضاءاته.
وإذا ما رجعنا إلى (الخلفية الفكرية) التي دعت أصحاب هذه المناهج إلى القول بهذا المبدأ سنجدها القيام على (التشكيك) في كل شيء، و(زعزعة) كل يقين، و(نقض) المفاهيم السائدة، وهو السمة البارزة التي أضحت لتوجه (الفكر الغربي)، وقد امتدَّ هذا (التشكيك) إلى اللغة ذاتها، ومدى قدرتها على نقل الواقع والأفكار نقلاً موضوعيا، و(التشكيك) في العلاقة بين (الدال) و(المدلول) إلى درجة القول ب(انعدام العلاقة اليقينية) بينهما، وبالتالي (غياب مركزية النص).
ولم يكن Jacques Derrida (جاك دريدا) -رائد التفكيكية- غامضاً حين كشف أن (لغة الأدب) تعتمد على (مبدأ الإرجاء)، وأن النص الأدبي لا يحدد المعنى بل (يرجئه) أو (يبقيه في حيز الإمكان)، ومثله Roland Barthes (رولان بارت) الذي صرَّح أنَّ عمل الناقد ليس اكتشاف (معنى العمل الأدبي) ولا (بنيته)، وإنما هو (إظهار عملية البناء نفسها)، أو (اللعب المستمر) بين (سطوح المعنى).
ويعزز أصحاب هذه النظريات هذا المبدأ ب(استراتيجيات) أخرى تحمل مصطلحات مختلفة، لكنها تؤدي إلى النتيجة نفسها، ف(الانتشار) و(التشتت) لا يختلفان عن (الإرجاء) و(التأجيل) في تأكيد حقيقة أن (الدلالة) التي يحملها (النص الأدبي) لا يمكن الوصول إليها، وأن الحصول على (المدلول) من (الدال) يبقى (مرجأً) (مؤجلاً) ب(استمرار)، ويزيدون -وفق هذين المفهومين- أنَّ المعنى يظل كذلك (متناثراً) (منتشراً) يصعب الإمساك به، ويبقى (مشتتاً) (مبعثراً) يصعب ضبطه أو التحكم فيه، وهذا الأمر -كما يرون- يبعث على (المتعة) بما يثيره من عدم الاستقرار والثبات!
ومنذ أن انتقلت السلطة إلى (القارئ) الذي اكتسب الدور الأساسي في عملية (تفسير النص) و(إنتاجه) و(تحديد دلالته) فقد أمست قراءاته (محل احترام) بل (موطن تقديس)؛ حيث أصبح لا تُردُّ لهُ (قراءة)، لكنها بالتأكيد قراءةٌ (غير نهائية) مما يجعل بقية القراءات (لا نهائيةً) كذلك، وهذه (الفلسفة) هي نتيجة طبعية لهذا (التأجيل) الذي منحته مناهج (ما بعد الحداثة) إلى (المعنى)، فإذا كان مُقَرَّراً مُنذُ البداية أنه لا يمكن الحصول على (دلالة النص)، وأنَّ كُلَّ (وصولٍ) إليها هو بمثابة (اللا وصول)، فإنَّ هذا راجعٌ إلى وعي الناقد وتسليمه التام بهذا (الإرجاء)، ومعرفته المسبقة بأنه لن يصل إلى (المدلول) الذي (انتشر) و(تشتت) على (سطوح النص) رافعاً لافتة (التأجيل) في وجه (القارئ)، وواهباً له خدمة (الانتظار) الطويلة التي ليس لها نهاية تلوح في الأفق.
وإذا كانت (المرجعية الفكرية) لهذه المناهج هي التي أفضت إلى تبني هذه الفلسفة فإنني أرى أنَّ ثمة أسباباً أخرى لها، لعل من أبرزها محاولة (استجلاب) كل ما يمكن من (تقدير) و(تبجيل) لإلباسه (الدلالة)، والنظر إلى (المعنى) على أنه فوق الإدراك، والتعامل مع النصوص بوصفها أعلى من الفهم البشري، وأنَّ ما تحمله من (دلالاتٍ) و(معانٍ) يرتفع قيمةً إلى الدرجة التي لا يستحقُّ معها أن يصل إليه القارئ مهما حاول أن يفعل ذلك.
واعتماداً على هذه الاستراتيجيات التي فرضتها أمثال هذه المناهج وما ينتج منها فهي بطبيعة الحال لا تقنع عند (مقاربة النص) بالمعاني الظاهرة الواضحة سريعة الإدراك، بل تُروِّج (للتشكيك) فيها والاتجاه إلى البحث عن معانٍ أخرى ربما كانت متناقضة مع ظاهر (الدال)، وهذا أمر طبعي في ظل الاعتقاد -بل الجزم- بأنَّ النص مليءٌ ب(الفجوات) و(المساحات البيضاء) التي تولدها (فراغات الكتابة)، ويظل (المعنى) وتظل (الدلالة) -إزاء كل ذلك- في حالة من (التأجيل المستمر) و(الإرجاء الدائم)، وفي صورة (لا نهائية) من (التشتت) و(الانتشار) و(التبعثر)، حيث لا يمكن لأية قراءة -مهما بلغت وأياً كانت- أن تدَّعي القبض على (الدلالة)، أو الوصول إلى (مركزية المعنى) في النص الأدبي.
وتتقاطع فكرة (التأجيل/الإرجاء) مع فكرة (الغياب) التي يطرحها نقد (ما بعد الحداثة) بقوة، تلك التي تقول بأنَّ (الدلالة) في حالة (غياب دائم) بسبب ذلك (التشكيك) في العلاقة بين (الدال) الذي يمثل حالة (الحضور) و(المدلول) الذي يمثل حالة (الغياب) مما أفضى إلى (التشكيك) في (حضور المعنى) من خلال (الدال)، الأمر الذي يجعله حتماً في حالة (غيابٍ دائم) وإن شئت فقل هو (قيد الانتظار) وفي حالة (إرجاء) (مستمر) و(تأجيل) (متكرر).
لقد أرسى نقاد (ما بعد الحداثة) هذا المفهوم عند (مقاربة النصوص الإبداعية)، واتخذوه (استراتيجية) مُثلى حين (التعاطي) مع (لغة الأدب)، حتى أضحى المعنى لديهم (كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحسَبُهُ الظمآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لم يَجِدهُ شَيئا)، وأصبحت (الدلالة) لديهم كتلك (المحبوبة) التي ظَلَّت تَعِدُ الشعراءَ باللقاءِ فلا تفي به، وتطلبُ (التأجيل) المرَّة تِلوَ الأخرى، حتى جاء أبو الطيب الذي لم يحتمل هذه الفكرة، فأعلنها (صراحةً) أنَّ أمثال هذه الألاعيب لا تنطلي عليه، وأنه قد كشف النتيجة المؤلمة، وعرف أنَّ هذا (التأجيل) ليس سوى (تخدير)، وأنَّ (الانتظار) لن يُجديَ ولو طال:
اليومَ عَهدُكُمُ... فَأينَ الموعِدُ؟
هَيهاتَ.. ليسَ ليومِ عَهدِكُمُ غَدُ!
أما هؤلاء النقاد فما زالوا يستمتعون بهذا (التأجيل) اللذيذ وذلك (الإرجاء) الممتع، ويزعمون أنه الطريقة المثلى لمقاربة النص الأدبي!
الرياض
Omar1401@gmail.com