في المشهد الأول لأي نص قصصي يكتبه الأديب محمد المنصور الشقحاء يلمح القارئ فيه فاصلة دخول إنسانية محتملة الإيماء لقضية قد تستعصي على الحل رغم أنها لا تزال تتواتر على الألسن وإن اختلفت الروايات وزادت المنقولات حولها، فهو قاص طبع باستجلاب الحكاية من كنهها الأول ومراميه البكر حتى أننا نصبح في موازاة كشف واضح لا يقبل الجدل، كأن تأتيك تفاصيله مراوحة بين الحكاية الجادة وصور أخرى من العناء والعناد والمكابرة والخروج عن المألوف بأي شكل وعلى أي نحو.
«البحث عن ابتسامة» إضمامة رباعية لأعمال قصصية تنوعت وتحولت تقنياتها وباتت على هيئة خطاب إنساني ناهز الثلاثة عقود، وجد الراوي فيها كل ما يطلبه، فقد منحه الكاتب الشقحاء صفة اعتبارية ليؤكد في سردياته ومقولاته أهمية أن يسمي الأشياء بمسمياتها، فإن كانت قصة سيقول عنها الراوي قصة، وإن كانت حكاية فلن يتردد في التمثل فيها متكئاً على هذا المخزون الكبير لدى الكاتب الذي شغل كثيراً بشخوص قصصه، وبأبطال حكاياته حتى بات القارئ في موازاة ملحمة إنسانية جديرة بالتدوين ومن ثم القراءة.
في القصص الأولى من مجموعة «البحث عن ابتسامة» يذهب القاص إلى هذا المنحى من الكشف التلقائي للحكاية، ليوردها كاملة غير منقوصة بما تحتاجه غالباً من عناصر حوارية على نحو مباشر يعمد إلى الفكرة وعنصر المفاجأة.
كل راوٍ من هؤلاء الرواة الذين يذيعون أسرار النص محملين بوصايا الكاتب، ومدفوعين على الدوام من قبله من أجل تحمل وطأة الألم، ونزف المعاناة، وصور الحياة المعقدة منذ الولادة وحتى الرحيل الأبدي، ففي هذه المعادلة الإنسانية يجد الكاتب الشقحاء ذاته في النشيد الطويل لأغنية الحياة التي تتساوق على تنويعات شجن عفي يسكن الوجدان، ليبني من قصصه في هذه المجموعات الأربع بعداً تجذيرياً لسلطة الراوي الذي يلم بجميع الأحداث ويسرد جل التفاصيل ويكاشف العالم حقيقته دون أي مواربة.
فالشقحاء كتب القصة القصيرة باعتبارها حالة سرد لا حالة رؤية بنائية كتابية يمكن أن تعالج العديد من الصور، فهو المحمل دائماً بمشاهد واضحة لا تقبل المواربة أو الحدس أو التخمين.
كل قصة من هذه القصص في المجموعات الأربع ذات هوية خاصة إذ إن لها حكاية مبررة، وسرد مفصل على مقاسها، وهجس وجداني مقنن لا يحمل أي دلالات أو إشارات يمكن أن تؤول النص نحو فكرة ما، أو قضية ربما يعتقد القارئ أنها تتقاطع مع ما سواها من قضايا وجدانية عامرة في مخيلة الإنسان.
كتبت جل نصوص هذه المجموعات الأربع التي حوتها دفتي كتاب حمل اسم المجموعة الأولى «البحث عن ابتسامة» في محاولة تحريك لغة الفأل أو طراوة الأمل في ظل سرد قاتم أليم اختطه الشقحاء حتى باتت هذه القصص بمثابة بيان سردي أليم لا يحمل أي فرضيات ممكنة لتداول الفأل أو امتزاج صور ترنوا إلى الأمل في ظل هذه المثبطات.
باختصار شديد عني القاص بتقديم الفكرة السردية بوصفها حكاية أصلية على ما سواها من فنون بيقين ثابت لديه أن النص القصصي المتكئ على الحكاية لا يمكن أن يقبل التجاذب اللغوي البنائي، أو الاقتضاب الإشاري أو التلويح بالحكاية من بعيد إنما عني بتلوين القصة من خلال رسم المشاهد المقننة، والحوارات المباشرة حتى تصل الفكرة إلى القارئ بأبسط الصور.
كما عني الكاتب وعلى مدى ثمانية وسبعين نصاً قصصياً توزعت فيما قبل على المجموعات الأربع عني في حالة الإنسان المطحون، العائلة المحطمة، الشارع الذي بدأ يفقد هويته النبيلة، الحي الذي باتت تدك جوانبه مجنزرات التحديث والتطوير والتثمين ونزع الملكيات وتفتت تلك المنظومات الطينية فلم يغادر أي صغيرة أو كبيرة إلا وعرج عليها الشقحاء في نصوصه.
ولم يدفع الكاتب بالرواة إلى هذا الأمر فحسب، بل نراه وفي أكثر من نص قصصي أوكلهم بمهمة توسيع الخطاب الإنساني لهذه الفئة التي تعاني منذ أن تكونت منظومة العمل المدني الذي باعد بين الأشقاء ووأد الكثير من البراءات التي ألفها الناس قبل زمن التحولات، فباتت الرحلة القصصية في معية هذه المجموعات للشقحاء حالة إدانة للواقع في أي زمان وأي مكان.
***
إشارة:
البحث عن ابتسامة (قصص قصيرة)
محمد المنصور الشقحاء
نادي القصيم الأدبي - 1430هـ، 2009م
تقع هذه المجموعة في نحو (250صفحة) من القطع المتوسط
لوحة الغلاف للفنانة التشكيلية أريج الرميح