على قدر المثالية يتجسّد الحرمان. فكرة جيدة، بيد أن السؤال المربك: إلى أيّ مدى يذهب صوابها؟ وكم تبلغ حصيلة السرور الذي سنجنيه ضمن عائدات إرضاء الناس؟
إن الحياة مشوار قصير جدا، وفائق الجمال، ولن يتسنى غير مرة واحدة. وسيدرك هذا المشوار أوج بريقه حين يُترع بالبهجة والجديد. وقد أدلى (لوتشيانو بافاروتي)، نجم الأوبرا الإيطالي الراحل، بأنه :»لحسن الحظ، تقدم الحياة نفسها إلينا متنوعة وحافلة بالاختلاف». ولكن على الضفة الأخرى، يُمنَى أناس بحياة مديدة ربما تناهز زهاء القرن، إلا أن مساحة الجغرافيا التي سعوا في مناكبها قد لا تجتاز قلة قليلة من الهكتارات المربعة، في خاتمة المطاف.
وفي حين تصنّف طائفةٌ من البشر الترفَ والرفاهية على أنهما انتهاك للقيم، أو تبديد للوقت – المبجّل لديهم بالأساس -، يعدّه آخرون – مثلما كتب الروائي الياباني (تاكاشي تسوجي) في (ربيع آخر) – بمثابة الضرورة. «إنها مصدر أفكاري وإبداعي»، يقول. وهو ذاته الذي يرى أن «الحياة الغنية المتدفقة وحدها هي ما يستحق العيش».
قد تبدو الحياة الرتيبة غريما للسعادة، وصنوا للخسران، وحليفا الندم. ولكن ماذا أيضا لو واكب الرتابةَ سيلٌ من مجاراة الجموع؟ هل من الصواب العزوفُ عن الجنون الواعي، والسير في غضون المرحب به لدى الآخرين، ضمن حياة باهتة ونحيلة؟ أم أن ذلكم هو الحرمان المبين؟ أليس من الحصيف الزج بأنفسنا في بحور المغامرات، كائنا ما كان طيشها؟ أو أن الحصافة تكمن في الانصياع لضوابط العموم؟ وأين يقف سقف الإذعان لفروض المتعارف عليه؟
لقد أيقن (أنطونيو غالا) دائما بأن على كل إنسان أن يعمل في كل لحظة ما يحلو له، على أن لا يلحق الضرر بأحد. فمتى يكون التفتيش عن استحسان الآخرين هدرا للعمر، ومتى يمسي من لطف المراعاة؟ إن معظم قراراتنا وتفاصيل حياتنا تستند إلى توقير السائد، وتهميش حظوظ الذات، على نحو مفرط. فأي عمر لنا سوف يستحوذ على رضا كافة الأنفس؟ وفي كتابه المذهل (عسس)، ينادي (سعيد الأحمد) :»أنت تنحر فرصك قرابين لعرف الآباء، وفدية للذوق، كونك تقطن مدينة تغص بالآباء». وينشئ تعريفا نادرا لل(حكمة) أنها :»زاد الكسالى، ودرع الجبناء. الحكمة نقيض للمتعة، ورادع للجسارة. وعندما نفقد قدرتنا على التمتع بأي شيء، نتمتع بالحكمة».
وفي الوقت الذي يمضي أقوام في أسلوب وحيد للعيش – هو ما يبدونه للعلن -، ينعم آخرون بأكثر من نمط للحياة. ومن غير المثير للدهشة أن يأتي حجم المعتم من شخصياتهم أوسع مرارا من المتاح. فما معايير الحرمان؟ وهل من حق أحدنا أن يقتني أكثر من حياة، أم ماذا؟
حين تئول بنا الحياة صوب نهايتها، فماذا سيخطر في بالنا؟ أهي الأعمال التي جئنا عليها، أم تلك التي حرمنا منها؟ وآنذاك، هل سنسقط في براثن الندم إزاء الصنع، أم إزاء العزوف؟ وينعت (ميلان كونديرا) فردا من شخوص رواياته بالقول: «كان خجلا، لأن من الفاضح الشائك أن يكون قد عاش على هذه الأرض هذه المدة الطويلة وأن يكون قد عاش قليلا جدا». وفي إعلان تليفزيوني لحساب مؤسسة (جالبين فورد Galpin Ford) الأمريكية، بغرض الترويج لإحدى بضاعتهم، يغلق الإعلان بهذه المقولة: «لا تنتظر إلى الأبد ؛ فالأشياء التي لا تقوم بها هي التي تندم عليها فيما بعد».
الرياض
ts1428@hotmail.com