أظن أن كل منشغل بالثقافة والأدب لا بد أنه يعتمد تقسيم مكتبته الخاصة (المنزلية في أغلب الأحوال) إلى ثلاثة أقسام، على الأقل.. فالأول يحتوي على (أرشيف) لأعماله المنشورة، والأعمال التي تتحدث عنها.. والثاني للكتب التي يتلقاها (إهداءات) من مؤلفيها، أو من جهات ثقافية ناشرة.. ثم القسم الثالث الذي غالباً ما يحظى بنصيب الأسد من الاهتمام، وهو قسم الكتب التي (اشتراها) الأديبُ بحرّ ماله من أجل قراءتها..
قد يظن البعض أن الكتاب (الموقّع بإهداء من مؤلفه) سينال حظوة وتميزاً وأولوية في القراءة، عند المهدى إليه - من زملاء الكتابة والأدب تحديداً - وهذا ما يفترض أو يليق، ولكن الواقع – كما يبدو لي من الممارسة - ليس كذلك في عموم إطلاقه، فهذا أنا أقفُ حائراً ومستغرباً أمام كتب كثيرة تلقيتها كإهداءات سررتُ بها في وقتها وكنتُ منتشياً وأنا أضع كل واحد منها في مكانه المناسب من الأرفف المخصصة للإهداءات في مكتبتي، وكلما هممتُ بقراءة بعضها استوقفتني عبارات الإهداء، بخاصة التي تحتوي مضامين وإيحاءات غالباً ما تكون في كلمات باذخة ومثيرة، وغريبة أحياناً، فأنشغل بتأملها وأنصرف عن قراءة الكتاب!
تلك حقيقة يسكت عنها الكثيرون، ولا أذكر أن أحداً قد لفت الانتباه إليها.. حتى الصديق الأستاذ محمد القشعمي عندما ألّف كتابه - الفريد في بابه (إهداءات الكتب) عن دار المفردات عام 2008 لم يذهب في محاولة لتقييم جدوى (الإهداء) وتمييز دور العبارات الموقعة وتأثيرها في خدمة الكتاب نفسه، بل اكتفى بتعليقات طفيفة تسبق نشره للإهداءات كما وقعها مؤلفو الكتب المهداة إليه شخصياً، بخطوط أيديهم - وقد كنتُ واحداً منهم - غير أنني، حين تصفحت الكتاب فور صدوره، وقرأتُ تصدير المؤلف وتقديم الدكتورة فاطمة الوهيبي ودراسة الدكتور محي الدين محسب، ثم بقية مواد الكتاب والتي هي عبارة عن قائمة طويلة تتضمن توقيعات تذيّل كلماتٍ متباينة تندرج في أغلبها تحت ما يمكن أن نسميه (علاقات ثقافية حميمة) بين عدد من المؤلفين ومؤلف الكتاب.. أقول بعد قراءتي للكتاب بمتعة: لم أستطع الوقوف على تبيان الفارق (المؤثّر) بين ما اعتدتُ على تدوينه كإهداء عاديّ ومختصر (للعزيز فلان، مع أطيب تمنياتي) وبين عبارات فنية وفي غاية العمق أو الخصوصية - أو التجلّي - تضمنتها إهداءات أخرى أبدع بها أصحابها وتفننوا في صياغتها بشكلٍ لافت..؟!
سبق أن أخبرتُ الأستاذ القشعمي برأيي هذا، وألمحتُ إليه بضرورة تتبع الموضوع طالما أنه عمل على الخوض فيه بإصداره ذلك الكتاب (الممتع!) لأنني كنتُ ولا أزال أشعر أن ثمة نتائج غير متوقعة كان من الممكن الوصول إليها ببحثٍ جاد ومعمق حول مسألة (إهداءات الكتب) ولم أكن أنوي الكتابة عن ذلك، فأنا محدودٌ جداً - ربما - في توقيع الإهداءات وفي تلقيها، بخاصة إذا قلتُ إني لم أقم (حفل توقيع) لأي كتاب صدر لي، ولم أقتن أي كتاب من خلال (حفل توقيع) أبداً..
وكمثال واضح يدلل على ما أردتُ قوله من كلامي العائم آنفاً، سأذكرُ إهداءً واحداً - دون التصريح باسم الكتاب ومؤلفه - حتى لا تتأثر (الصداقة) بشيء من الانزعاج: بين يدي الآن كتاب أهداه لي مؤلفه - وهو أحد الأدباء الخليجيين، من ذوي المناصب الثقافية الرفيعة - ووقعه بتاريخ العام 1998 وللغرابة أنني حتى الآن لم أقرأه رغم أن مادته تتوافق مع ذائقتي في القراءات، ولكنّ العبارة المدوّنة (كإهداء) دائماً ما تقف حائلاً بيني وبين صفحاته، أو تأخذني منه إلى غيره! كيف؟
الكتاب من الجنس الأدبيّ (الإبداعيّ) وعنوانه اسمٌ لا ينطبق إلاّ على النصّ وصاحبه، بينما الإهداء كان موجهاً لي بهذه العبارة: (لكَ أن تختارَ ليلك)..؟!
لم يكن في عنوان الكتاب أيّ دلالاتٍ على ليالٍ من أيّ نوع، ولا إحالاتٍ إلى شيء منها، وصديقي المؤلف (المبدع) يعطيني تصريحاً بالسماح لي أن (أختار ليلي!) ولليل عندي اختيارات واختبارات تنأى بي عن ذلك الكتاب ومؤلفه العزيز؛ أفليس لي من الحقّ ما يكفي للانصراف..؟!
خلاصة القول: برأيي أن عبارات (الإهداء) إن كانت تخدم الكتب في بعض الأحيان، فإنها تضرّ بها في أحايين أكثر.. ولا أريد أن أضرب مزيداً من الأمثلة، بل سأكتفي بمثال آخر يتمثل في أديب وناقد عربيّ مرموقٍ كان يتابع نشاطي الأدبيّ ويكتب عن كلّ عمل يصدر لي دون أن تكون بيني وبينه معرفة شخصية أو مراسلات تستوجب أن أوقع له (إهداءً)، أمّا حين نشأت تلك المعرفة (أو الصداقة) المفضية إلى تواصل بيننا.. أهديته جديدي فور صدوره، فأمطرني بعبارات الشكر والتقدير، غير أنه لم يكتب حرفاً واحداً عن الكتاب وأظنه انصرف كلياً عن قراءته مكتفياً بالإهداء..!
ffnff69@hotmail.com
الرياض