منذ أن صدر كتاب (حكاية الحداثة) قبل قرابة ست سنوات وهو لا يزال وحتى وقتنا هذا مَحطَّاً لأنظار المثقفين وموطناً لمناقشاتهم وحواراتهم على اختلاف (أيدلوجياتهم)، وقد أحدث حينها (ضجةً) كبرى، ولا أخالُ أنَّ أحداً من الأدباء والمثقفين إلا وقد تناوله وأبدى رأيه فيه، والآن وبعد أن هدأت هذه (الزوبعة) التي رافقت ظهوره هذه (قراءةٌ متأخرة) تحاول أن تضع النقاط على الحروف، وتبغي الكشف عن الأبعاد (الفكرية) و(الأيدلوجية) التي تضمنها الكتاب.
يُعدُّ الدكتور (عبد الله الغذامي) واحداً من أكثر النقاد السعوديين والعرب شهرةً وقدرةً و(جرأةً) على طرح رأيه (النقدي) و(الثقافي) الذي يتضمن غالباً (إضافةًً تجديدية) ودعوةً (للتغيير والتحديث).
وحين نتحدث عن (الغذامي) فإننا بالضرورة سنتحدث عن (حركة الحداثة) في المشهدين (الثقافي) و(الاجتماعي) في المملكة العربية السعودية، هذه الحركة التي كان (الغذامي) مِحوراً أساساً في (صراعاتها)، وهي الحركة التي ابتدأت خلال فترة (الثمانينات) الميلادية وأحدثت (صراعاً) حاداً داخل (المجتمع السعودي) الذي تعوَّد على (المحافظة والتقليد)، وكان بطبعه رافضاً لأية دعوة تَجديدية أو تغييرية تَمسُّ نسيجه أو بنيته الاجتماعية والثقافية، ومن هنا نشأ (الصراع) بين فرقتين؛ إحداهما تمثِّل (التجديد) وتنادي بالتغيير والإفادة من (التطورات الفكرية) التي ظهرت في الغرب، وأخرى (ترفض) ذلك التجديد رفضاً باتاً، وتعُدُّهُ (خروجاً على الدين)، و(انقطاعاً) عن (التراث) العربي الأصيل، واستمرَّ هذا (الصراع) طيلة فترة الثمانينات والتسعينات إلى أن هدأ مع مطلع القرن الجديد الذي شهد (تَحولاتٍ) حضارية واجتماعية مفصلية في (المجتمع السعودي).
وما كتاب (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) لمؤلفه الدكتور (عبد الله الغذامي) إلا محاولةٌ لرصد ذلك (الصراع) الفكري والثقافي والاجتماعي الذي شهدته (المملكة) خلال فترة الثمانينات مع ظهور (حركة الحداثة).
والكتاب يقع في (ستة عشر) فصلاً تتنوع ما بين (السرد التاريخي) المجرد، وبين (القراءة الواعية) لذلك التاريخ، والفصول هي: الأول: الحوار الضائع، الثاني: تسكين المتحرك/النسق الساكن، الثالث: حداثة النصف خطوة، الرابع: قلعة التقاليد، الخامس: الحداثة/الموجة الثانية، السادس: المكارثية الجديدة، السابع: ظهور المثقف، الثامن: ظهور المثقفة، التاسع: عقلية بين عقليتين، العاشر: الطفرة/ الحداثة المشوهة، الحادي عشر: الموجة الثالثة/صدمة الحداثة، الثاني عشر: فضيحة الحداثي، الثالث عشر: معركة الجامعة، الرابع عشر: الحداثة في خطب الجمعة، الخامس عشر: جماعة منطق النص، السادس عشر: نهاية الحداثة (ما بعد الحداثة).
وقد ابتدأ (الغذامي) كتابه بالإشارة إلى فكرة (المحافظة) التي يتصف بها (المجتمع السعودي) بشكل لافت وواضح، وكأنه يريد أن يُعلِّل (لرفض) المجتمع لحركة الحداثة، ويؤكِّّد على أنه رفضٌ طبيعي؛ فالمجتمع المحافظ جداً ليس غريباً عليه أن يرفض مجرَّد فكرة التجديد والتغيير.
وقد حاول (الغذامي) في الفصل الأول من كتابه أن يُمهِّد لظهور (حركة الحداثة) في المملكة، وأن يؤكِّد على أهم (حلقة مفقودة) في (صراع) المحافظين مع الحداثيين وهي حلقة (الحوار)، أو (الحوار الضائع) كما أسماه؛ حيث أكد على أنَّ (الصراع) نشأ لعدم تقبُّل المحافظين لفكرة (الحوار) التي بإمكانها أن تُنهي الخلاف والصراع قبل بدايته، وسرد في هذا السياق قصصاً متنوعة جرت بينه وبين خصومه.
كما اهتم (الغذامي) في بداية كتابه أن يضع تعريفاً للحداثة التي آمن بها ودافع عنها وصارع من أجلها، وهي في نظره (التجديد الواعي)، وراح يتهم خصومه بأنهم لم يستطيعوا أن يحددوا (مفهوماً) واضحاً للحداثة، وراحوا يحاربونها (دون وعي).
وبعد ذلك دلف (الغذامي) إلى آفاق أبعد في سرد (حكاية الحداثة) من خلال (قراءة) واعية وناقدة للتاريخ، فابتدأ (بإرهاصات) التجديد الثقافي و(بدايات) التحديث الاجتماعي في المملكة، تلك التي كانت على يد المجدد الشاعر (محمد حسن عواد) الذي جُوبِهَ بالرفض، لكنه كان مناضلاً ومخلصاً لفكرته التجديدية التي أسماها الغذامي (حداثة النصف خطوة)، بعد ذلك استعرض (الغذامي) دور (الجامعة في السعودية) في (حركة الحداثة)، ونحن نعلم أن الدعوة إلى التجديد والتغيير ابتدأت على يد أولئك (الطلاب) الذي ابتعثتهم (الجامعات) في السعودية في الستينات والسبعينات إلى (أوروبا) و(أمريكا) للدراسة وكان (الغذامي) واحداً منهم، بيد أنه يرى أن (الجامعة) لم تُقدِّم (الدعم) الكافي لأبنائها العائدين بعد ذلك، ووصفها بأنها (الأميرة النائمة) أو (البعيد النائي) كما في عنوانات الفصل الرابع.
كما ناقش (الغذامي) (المتغيرات الاجتماعية) الخطيرة التي شهدها المجتمع السعودي ومهَّدت لظهور (الحداثة)، ولعلَّ مصطلح ( الطفرة) يُعدُّ الأهم في عرض (الغذامي)؛ حيث تحوَّل (المجتمع السعودي) إلى مجتمع غنيٍّ ومتضخِّمٍ ماديا، ومثل هذا الأمر كان له دور كبير في تغيير (طريقة التفكير) ونمطيته لدى أفراد المجتمع، وإن كان (الغذامي) يحاول انتقاد المجتمع (بقسوة) حين يتهمه بأنه لم يتأثر مع (الطفرة) إلا على مستوى التطور العمراني والمادي، وهو ما بدا جلياً في مبحث (من الطين إلى الإسمنت).
وفي فصول متعددة من الكتاب بدا (الغذامي) وكأنه يريد (تصفية حسابه) مع خصومه، فشنَّ عليهم هجوماً عنيفاً (غير مؤدَّب) وغير مراعٍ لأبسط قواعد التهذيب وأدبيات النقاش والحوار، فنال من أعداء الحداثة (كأحمد فرح عقيلان) و(محمد عبد الله مليياري)، ونال أيضاً بقسوة من أعدائه الشخصيين حتى ولو كانوا منتمين إلى الحداثة، ولعل أبرز هؤلاء خصمه اللدود الدكتور (سعد البازعي).
كما لم يفت (الغذامي) أن يناقش (الخطاب الديني) وموقفه من الحداثة، فأفرد فصلاً عنوانه (الحداثة في خطب الجمعة) وراح ينتقد بعض المتدينين منه؛ إذ رموه (بالكفر) و(الزندقة) ووصفوه بأبشع الألفاظ دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناء (قراءة) ما يطرح ومناقشته فيه.
والحقيقة أنَّ (الخطاب الديني) في المملكة خلال فترة الثمانينات كان (حاداً) و(ظالماً) في تعاطيه مع (الحداثة) ورموزها دون أن يعي جيداً حقيقة ما تدعو إليه (الحداثة)، ولعلي أؤكد هنا على أهمية وجود (المثقف الأكاديمي) المتخصص في العلوم الشرعية، والقادر على استيعاب (الآخر)، وقراءته ومناقشته.
وعلى مستوى منجزات الغذامي التأليفية فقد أفرد فصلين: الحادي عشر والثاني عشر للحديث عن كتابه الأثير (الخطيئة والتكفير) وكشف عن (صراعات كبيرة) واجهها الكتاب منذ المطالبة بفسحه من (وزارة الإعلام) مروراً بصدوره ومناقشته والمقالات التي كُتبت عنه، وملخص ما ذكره (الغذامي) في هذا السياق هو أنَّ الذين عادَوا كتابه ووقفوا منه موقفاً سلبياً (لم يقرأوا) الكتاب، وإنما أرعبتهم مفردة العنوان (الخطيئة والتكفير) لارتباطها بالمُكوِّن (الفكري المسيحي)، رغم أنَّ (الغذامي) استثمرها (ثقافياً) و(نقدياً) بعيداً عن (الأيدلوجيات).
وبعد هذه القراءة السريعة نستطيع أن نلخص أبرز المميزات التي اتصف بها كتاب (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) فيما يلي:
1- (القراءة الواعية) -غالباً- للتاريخ الثقافي والفكري في فترة تُعد أثرى الفترات وأكثرها تحركا وتغييرا.
2- المحاولة الجادة لرصد أبرز (المتغيرات) الاجتماعية والثقافية والفكرية التي طرأت على (المجتمع السعودي) في فترة الثمانينات من خلال ظهور (حركة الحداثة).
3- التأكيد على أنَّ (الحداثة) التي تبنَّاها (الغذامي) ونادى بها هي حداثة (ثقافية) و(نقدية) تدعو على (التجديد الواعي)، وتنبذ (التخلف) و(الرجعية)، مع اعتمادها على أرضية (تراثية أصيلة)، واحترامها للمُسلَّمات والثوابت.
4- (التفريق الواعي) بين (الحداثة) بِمعناها (الأيدلوجي) و(الفكري) الذي يدعو إلى الانقطاع عن الأصول والانطلاق في التجديد دون وعي أو منهجية، وبين (الحداثة) بِمعناها (الثقافي الواعي).
5- أكَّد (الغذامي) -وما زال يؤكِّد- على أنَّ حداثته التي يدعو إليها هي (منهجٌ) لا مذهب، وهي (تَجديدٌ) في (الأنساق) الفكرية والثقافية.
6- (توثيق) فترةٍ تاريخيةٍ مهمةٍ وحساسةٍ جداً من فترات (المجتمع السعودي).
لكننا ونحن في سياق (مراجعة) هذا الكتاب القيِّم يجدر بنا أن نشير إلى بعض المآخذ والعيوب التي كان من أبرزها:
1- (فقدان) وجهة النظر (المحايدة) أو (المنصفة)، (فالغذامي) (طرفٌ رئيس) في (حكاية الحداثة) وصراعاتها، وليس من العدل أن يقوم هو بسرد (الحكاية)؛ لأنه مهما حاول أن يكون منصفاً إلا أنه لن يُظهر عيوبه ويكشف أخطاءه التاريخية، وهذا ما ظهر في الكتاب، فالقارئ يكاد يخرج بنتيجة واحدة مفادها أنَّ (الغذامي) كان (ملاكاً) لا يُخطئ أبدا.
2- التجني والاتهام غير المسوَّغ لأعداء (الحداثة) وأعداء (الغذامي)، وكأنَّ (الغذامي) يريد (تصفية حساباته) معهم من خلال هذا الكتاب، وقد ذكرتُ آنفاً نماذج لهذا.
3- تجاهل (الغذامي) لدور الصحافة (الملاحق الثقافية) في (الصراع) بين (الحداثيين) و(المحافظين)، رغم أنَّ (الصحافة) كانت المُشعِل الرئيس والمُفجِّر القوي لذلك (الصراع)، وحين تقرأ الكتاب لا تلحظ سوى إشارات يسيرة جداً للصحافة، وربما كان (الغذامي) (يتجاهل) بوعي دور (الصحافة)؛ لأنَّ معظم الصحف حاربت الحداثة وبالذات صحيفة (الندوة).
معلومات الكتاب: حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية، د. عبد الله بن محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، الطبعة الأولى، 2004م.
Omar1401@gmail.com
الرياض