نقول إن للفن دوره في نهضة الإنسان وتطوره, وعلى كل ما يلهمنا إياه هذا المعنى إلا أننا في لحظات صدق لا بد ننظر إلى الأمر عن كثب ونفكر.. بماذا يمكن للفن أن يعين وطنه الذي يظهر فيه, وما الذي من الممكن أن يقدمه لمدينته التي يخرج فيها, وجاره الإنسان الذي قد يسكن قريبا منه جدا!. بعيدا عن البناء النفسي الكبير الذي يؤهله تاريخ الفن لبناء البشرية وبعيدا عن اللحظة الآنية للتفكير بواسطة الفن وبعيدا عن المشاعر والأخلاق التي يهذبها جمال وعمق الفن. هل يمكن أن يكون الفن آداة لخدمة الإنسانية.. الغير نخبوية.. والغير مثقفة.. والتي غالبا لا تعي ما يعنيه الفن !.
كل مظاهر تطبيق الحضارة.. كل ما يعني الإنسان من عمل قد يسخر لصالح الإنسان الأقل حظا والأقل قدرة على المساهمة في الأمور الثقافية أو السياسية أو حتى الاقتصادية. هذا ما يفترض بالحضارة الحقة أن تفعله.. أن تصلح من البناء الروحاني والنفسي والمادي بحيث تسخر كل الإمكانات لصالح نهضة الفقراء والمحتاجين لا الأغنياء فقط. لذلك ولأن كل عمل يهم الإنسان إبداعي أو اجتماعي أو اقتصادي قد يتحول لطاقة إنتاجية تعين هذا العالم ليصبح أسهل فإن الثقافة والفن بالذات بمحتواهما الجمالي الغزير يعتبران مادة استثمارية رائعة لإعانة المحتاجين للإعانة.
حلمت يوما وبجدية تصادمت مع عدد لا بأس به من العراقيل بإنشاء جمعية ثقافية فنية تسخر الجزء الأكبر من ريع أنشطتها لدعم الفقراء كما تقدم خبراتها لتكون في متناول كل الذين لا يستطيعون التواصل أكاديميا مع تلك الأنشطة. يقوم المثقف فيها أو الفنان باستثمار معرفته وثقافته للإصلاح من شأن هذا العالم سواء قدم المعونة مباشرة بشكل معرفي أو ساهم بشكل إبداعي في توفير مبالغ لإعانة الفقراء.. كان هذا الهدف تحديدا من وجهة نظري سيعطي للثقافة في ضمائرنا ذلك البعد الحيوي والإنساني الثمين لمعنى أن يكون لنا أثرنا الحميد في حياة الناس.. لا أولئك الذين يصفقون لنا ونعجبهم بل لأولئك الذين قصرت ظروفهم أن يتواشجوا وثقافتنا.. ولهم اهتمامات أكثر بساطة وأحلام أكثر رهافة من أحلامنا لكننا نعيش معهم تحت سماء واحدة ويؤسفنا أن لا نقدم في حياتنا «الثقافية تحديدا..نسبة لإيماننا بجدواها على الأقل» شيئا يمثل معنى «الخير» في صورة جلية نستطيع أن نتذكرها. هذا الطرح هو تحديدا محاولة لتشجيع كل فكرة تحوم حول هذا النوع من البركة التي أرى أن في حضورها دعما حقيقيا للثقافة عاطفيا ومعنويا وروحانيا نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت مضى.
هذا النوع من الأنشطة هو من غزارة الحضور في الخارج ما يجعل المؤسسات الغير هادفة للربح والمؤسسات المتبنية لمسؤولياتها الاجتماعية ذات أنشطة حيوية فاعله تظهر رعاياتها وأنشطتها بشكل جلي ومؤثر في نوع الثقافة والفن الذين يصدران عن فناني ومثقفي تلك الأقاليم.. وعن المهرجانات والفعاليات والمؤتمرات الثقافية التي تصدر عن هكذا توجهات. سؤالي هنا.. كم يستطيع الفرد أن يسهم في مثل هذا الموضوع وأن يعطي بالشكل المعدي لا لنا كأفراد في وطن واحد بل لنا كبشر تتأثر فطرتنا بالطيبة وبالحق وبالجمال الملموس في التعاون من أجل نهضة إنسان.
قبل نحو العامين قامت مصورة أوروبية بزيارة الهند وهناك صنعت مشروعا رائعا لمجموعة من أطفال الأحياء الفقيرة حيث أهدتهم كميرات تصوير فوتوغرافي ووفرت لهم كما من الدورات يعينهم على فهم ومعرفة واحترافية التصوير وتركتهم يبدعون باحترافية رائعة أهلتهم للطواف بأعمالهم عبر معارض متنقلة غاية في الجمال وغاية في رقي الهدف الإنساني لدعم فقراء الهند. انتقل هذا المشروع بعد ذلك إلى مصر وأكاد أجزم أنه سيستمر في التنقل بهذا الشكل وربما بأشكال أفضل.. الأمر الذي أجده محفزا للذهنيات المهتمة ببناء الإنسان روحيا واستثمار هذا في جانب بناء الدنيا التي نعيش فيها.
بالطبع يستطيع كل مثقف أو فنان تخصيص جزء من ريع نتاجه لصالح الفقراء إنما أجد من الأجمل أن يتم تبني مشروعات يسهم مجموعة من المثقفين والفنانين في دعم إنشائها ليصبح هذا ذاكرة يفتخر بها الفنان أو المثقف وإن قصرت ذاكرته فثمة وطن كامل باستطاعته أن يتذكر.. لا لأجل الفنان فقط، بل لأجل المعنى الجميل والسامي للثقافة وللفن.
www.sedrh.om
الرياض