مسبحة شعر.. حباتها عصارة فكر.. صاغها شاعر إبداعي.. ونظم عقدها بخيط من حرير يستعصي على الانفراط.. هكذا لامستها بأناملي.. ورحت أحصيها حبة حبة في ربط جميل.. وبرباط أصيل.. لن أطيل في توصيف المسبحة ولا في وصف عقدها ورباط خيطها.. أدع هذا لتسبيحة شاعر في صومعة شعر كله تراتيل حلم.. وضَراعات حب.. ودموع شكوى..
في خرزتها الأولى اتساع قلب صغير بحجم هذا العالم الكبير.
صغير، كالبرتقالة قلبي
لكنه يسع العالم كله
من يسكن الحب قلبه.. يرى الدنيا ملء جوانحه تتحرك في سلام.. كن جميلاً ترى الوجود جميلا..
في خرزته الثالثة يقول:
ألقيت قوسي وسهامي
رافعاً قلبي راية استسلام.
فكوني المشنقة التي ترفعني نحو السماء
هكذا اختار مشنقته أن لا يموت ذليلاً.. وإذا لم يكن من الموت بد، فمن العار أن تموت ذليلا..
حتى القيد الذي يشده إلى الأرض دونه الحياة.. لأنه دون نبض يقاوم مذلة الخنوع.. والركوع..
في خرزته السابقة يرسم لنا لوحة جميلة عن مملكته.. وعن صحرائها حيث رعاياه ورد متفتح.. وسنابل مثمرة.. وعصافير تزقزق..
وكوخ يسكنه سرير مصنوع من سعف النخيل.. هكذا رسم الصورة لرعاياه..
أيتها البعيدة كقلبي في يدي
القريبة كالشمس من عيوني
لَأُبايعك مليكة في أقاليم جنوني
قد توّج نفسه.. ومن حوله حقوله.. وطيوره تحيي.. وتحيِّي تلك المناسبة السعيدة.
في خرزة سبحته الثامنة أعاد كل شيء إلى طبيعته وبحريته.. النهر نحو البحر، السنابل نحو التنور، العصفور نحو العش.. الآفك نحو العقوبة.. القلم نحو الورقة، والصلوات نحو الله.. أما الوطن الذي يستوطنه فلصيارفه الذين يزاودون كما لو أنه سلعة..!
وفي خرزتها الحادية عشرة حيث الطبيعة وأدواتها ووظائفها:
للطبيعة كتابها، الأشجار حروف.
الأنهار مداد، الأرض ورقة
كتاب مفتوح.. وقارئ مفضوح لا يجيد القراءة.. لأنه مشغول بنفسه عن نفسه.. إلى درجة الإسقاط والإحباط.
الخرزة السادسة عشر تذكرني بسنمار وجزائه..
أعرف أن العبيد هم الذين شيدوا الأهرام
سور الصين، وجنائن بابل.. ولكن..!
أين ذهب عرق جباههم؟!
وصراخهم تحت لسع السياط؟!
لقد ذهب مع الريح لأنهم أجراء أذلاء.. الريح لهم.. والربح لسادتهم!
في خرزته الثامنة عشر يحدد مشاهد وشواهد ما زالت طيّ الانتظار.. مجرد حلم تحجبه السنون في كهفها الغيبي..
لن يكون بعيداً ا ليوم الذي سينتقم فيه
الجرح من السكين.! الشاة من الذئب!
الدموع من دخان الحرائق! الشجرة من الفأس..!
وأشياء أُخَر تحمل الصور الصارخة ما بين الضعف والقوة.. ما بين الحلم والعلم هو نفسه ما بين حق القوة وقوة الحق.. صراع أزلي مليء بالإثارة.. وعلامات استفهام كثيرة..
كثيرة هي حبات الخرز الملونة.. الكثير منها في مضامينه متشابه آثرت تجاوزها لغيرها من أصداف شعره الإبداعي..
لأنك اللؤلؤة.. وزهرة المستحيل
التي تأرجح كلما لامستها العواصف
فقد شكرت الله كثيراً حين جعلني صَوَفة
في بحر عشقك.. وأكرمني
بماذا أكرم الله شاعرنا السماوي؟! بجنون العواصف، وهستيريا الوعود.. لعله ينشد مطر الحياة حيث السقيا، والربيع، والورد مساحة من العشق تملأ قلبه كما لو كانت كتاباً مليئاً بمفردات الغزل:
كتاب جسدك حفظته عن ظهر لثم
وعن ظهر شم حفظت عطره
إنه الكتاب الوحيد الذي كلما شربت سطوره
ازددت عطشاً لإعادة قراءته
ومع هذا فإنه يموت وفي نفسه شيء منه.. لا يرغب البوح به.. لأنه.. أو لأنها كتاب حب من شوق لا ورق فيه ولا حبر..
وعشق آخر له مذاق لا يجاريه مذاق.. المعشوقة وطن.. وأهل.. ودار.. وتاريخ.. هكذا أحسب..
قبل كل لقاء يتبرج لكِ قلبي
يكحل بالدفء أجفان نبضه
ويخضب دمه بحناء الحنين
ماؤك.. لا ترابي، أعشب حقول أبجديتي
ويتساءل كما لو كان لا يدري.. وهو يدري..
كيف تلد الدنيا قارات جديدة
إن لم يحتضن عشك عصفوري؟!
يا شاعرنا الاغتراب اقتراباً حين لا تعصف به رياح الهجيرة.. والهجر.. وأنت بعشقك صوت وطن لابد وأن يجد الصدى..
الوطن حب.. أن يسكن في وجدانك نابضاً بحركته.. ومن يملك الانتماء يتحمل العناء.. هذا قدر الملايين الذين هاجروا..
أو هُجِّروا.. أو هُجِروا.. سيّان.. إن الحب لديهم وطن.. والوطن حب.. كلاهما توأمان سياميان. أنت قلت هذا..
الحب، والوطن توأمان سياميان
متشابهان باستثناء أن للوطن حدودا
ولا حدود للحب..
دع حبك يسرح ويمرح في فضاءات وطنك عن قرب.. وعن بعد.. الحب يطوي الأبعاد كما تطوي أشعة الشمس الظلال والزوايا المعتمة.. دع من قلبك الشاعر نافذة تطل منها بمشاعرك على وطن لا يكره أبناءه إلا بقدر ما يجحدون..
أيها «السماوي» لشاعرنا العربي بيت من الشعر يقول:
تكاثرت الظباء على فراش.. فما يدري فراش ما يصيد
وتلك هي حالي مع حبات عقدك الشاعري لا أدري عن أيها أكتب.. اسمح لي أن أصطفي منها ما تتسع المساحة المتاحة لذكره..
منذ دهور.. وهو يصرخ، لم يسمعه أحد
ليس لأنه يصفق بيد واحدة
ولا لأنه مثقوب الحنجرة.. إنما
لأنهم اعتقلوا الهواء في قاعة الوطن
القاع وعاء يختزل ما فيه كعمق النهر.. إنه يخترق السدود والحدود دون أن يتوقف..
الفارغون يظنون الكأس فارغاً
مع أنه مملوء بالماء..
وفي المقابل الفارعون بقيمتهم وقامتهم يرون الكأس مليئاً حتى ولو كان نصفه فارغاً.. لأن بصيرتهم تسبق بصرهم..
شاعرنا يحلم بالواقع الممكن لا يعنيه اكتشاف أبعاد فضائه بقدر ما يعنيه اكتشاف مواطئ قدميه كي لا يسقط.. وكي يكشف لقافلته بئر ماء يروي عطشها كي تقطع مسافة الدرب.. ومساحة الرحلة.
ربما يحفر بئراً لتنهل منه القافلة
وهي تغذّ الخطى نحو المدينة الفاضلة
المدينة الفاضلة مجرد حلم داعب الفارابي.. وأفلاطون.. وفلاسفة أُخَر.. لا مكان له في عالم مليء بالظلام والظلم.
ومع الحلم يأبى شاعرنا أن يكون شيئاً مذكوراً في عالم الأحياء، هكذا عرف بهويته..
أنا وطن، فكوني العاصمة..
أنا سارية، فكوني العلم..
أنا سؤال، فكوني الجواب..
والسؤال.. هل كان؟.. وهل كانت؟؟ والغبار يملأ حنجرته.. ويجعل من حروفه صديئة؟!
وبين الألم.. والأمل تعريف لشاعرنا محدد.. ملؤه الصواب.
اثنان لا ينضبان، الألم.. والأمل.
الأول بحر أحمق.. الثاني طوق نجاة
يرقب من حوله شجرة عارية غربت عنها شمس حياتها.. يتحدث عنها كما لو كان يكتب رسالة لفيّها..
إذا كانت لا تنجب ثمراً.. ولا تؤوي طيرا
ولا تمد أغصانها أراجيح للأطفال
ولا تنسج للمتعبين قميصاً من الظل
فما جدواها إذاً هذه الشجرة؟!
لا شيء.. وأخيراً مع مقطوعته.. مع خرزة سجته حيث يخاطب معشوقته
نحن كالأسماك يا حبيبتي
نموت إن لم نغرق بحب الوطن
وكالحب تصدأ مرايانا
إن لم نُزِل عنها ضباب الكراهية..
أيها الشاعر المغترب بجسده.. المقترب بمشاعره كنت رفيق درب لا تُمَلّ كلماته.. كان لك الحداء.. وكان لقافلتك السير بين أشواق الأمل.. وأشواك الألم.. كنت فارسا يُجيد.. ويجدّ.. دون أن تنكفئ له راية.. أو ينطفئ له صوت.
***
106 صفحات من القطع المتوسط
الرياض ص. ب 231185 - الرمز 11321 فاكس 2053338