تمتاز: اللغة، ويمتاز النحو وكذلك: البلاغة بأنها كلها (ملَكة) بفتح اللام دون كلام، ولعله يتعسر التعسر كله أن يكتب أحد ما عن علم من هذه العلوم وهو إنما يكتب لمجرد الكتابة، أو هو، وهو الأعم إنما يكتب لإعجابه بهذا العلم، وذاك ناهيك بمن يكتب من باب سد الفراغ أو كشكولية الطرح.
ولهذا، كان كبار العلماء في سالف العهود ما بين سنة: 170 حتى القرون: 200، 300، 400، 500، إلى: 700 كانوا يرحلون في طلب هذا العلم، ذلك كله بادئ ذي بدء ينبي عن هذا العلم الجليل أنه يؤخذ عن طريق التلقي الموهوب.
وذلك هو: السليقة أو الملكة، أو الاستعداد الجيد للكامن في الأغوار، واللغة.. والنحو.. والبلاغة في كل واحد منها متعة عقلية نشطة لكن هذا قد يكون ثقيلاً على من ليس لديه استعداد مكيث، أو يفتقر إلى حسن التأني وبعد غور الاستنتاج. مثلها مثل هذه العلوم كمثل علم: الحديث سواء بسواء؛ فهو يحتاج إلى طول الباع: صبراً.. وتذوقاً.. وأريحية.. وكثرة نظر.. وقوة مراجعة.. وحسن فهم صاف جيد.
من أجل ذلك لم نر اليوم اللغوي أو النحوي أو البلاغي الذي نقول عنه إنه ذاك، وإن كان هناك اجتهادات عالية عاينتها في بعض من لقيتهم سواء من أعضاء المجامع اللغوية أو أعضاء اتحاد المؤرخين العرب.
ولا جرم فإن طول القراءة والتدبر والمكث التأملي وسعة البطان مع قلة حب الشهرة بل انعدامها بنية صافية ومحاولة تجديد الطرح مع خلق رفيع وكلام رزين كريم واهتبال الوقت لكتابة المصنفات العالية التناول المفيدة للأمة. كل ذلك خير من كتابة مقالات فيها المكرر والمحفوظ والمنثور المعلوم بين ذوي الدراية والرواية.
وتستطيع - وخذ هذا مثلاً - أن تقرأ الكتاب لسيبويه، هذا الكتاب الجيد الذائع الصيت فلعلك إن كنت من ذوي تلك القدرات والاستعدادات. الاستعدادات المكيثة الفطنة سوف ترى هذا العالم قد ترك لغة الخطاب المباشر، أو لعلك في حال تأني النظر له تلمح أن: (سيبويه) قد أصّل.. وقعّد وسار على العظماء خلقاً وأدباً.. وأسلوباً.. واستشهاداً في (كتابه) سار على طريقتهم:
حماد بن زيد.. وحماد بن سلمة وسواهما، لكنه هناك أضاف جديداً لم يسبق إليه بواسع متمكن أمكن من أدب جم وسعة أفق مبين جد مبين.
وأنت تطالع بمكث عقلي حيوي تطالع: (الصحيح) أو (العلل) أو: (العواصم من القواصم) أو: (العلل الكبرى) أو: (الباعث الحثيث) فسوف ترى: البخاري.. والدارقطني وإبن العربي.. والترمذي.. وابن كثير سوف تراهم جملة وتفصيلاً : لماذا خلد ذكرهم؟ وسار علمهم.. سار علمهم مسار الرياح عبر العصور.. لن تجد.. نفع بك.. إلا أسس الإضافات وسعة العقل وبنية الكلام الرصين، تجديد.. ورصانة.. وخلق وحكمة ومثل، وسبق جليل في الطرح، تجد ذلك شاهداً على أن الملكة أصل مهيب، وأن.. الموهبة.. تشمها في ثنايا معالجة القول.. والنقد.. والاجتهاد.. والتوجيه على سالفة سلفت.. ولو نظرت مثلاً.. أيدك الله بتقواه ودلك بهداه.. لو نظرت اجتهادات وآراء ابن جني.. والمبرد.. وابن فارس وعاينت بتأمل سطور: ابن قتيبة.. وكلام: عامر ابن شراحبيل الشعبي.. وابن أبي ذئب لندبت نفسك أنك نأيت من قبل لم تقرأ لهم.
كل ذلك أسوقه لعله يفيد قومي في حين نحن أحوج ما نكون فيه إلى طول التدبر مما خطه القروم الموهوبون، فنأخذ منهم فنستفيد ونفيد، لا سيما لغة الخلق.. ولغة البذل الزمني.. وإضافات نكتشفها بعيداً عن: العجلة.. واستعجال دافعة الاسم وبروز اللقب وما شابه ذلك، ولعلك لو جربت وأنت كأني بك فاعل تقرأ (الصحيح) للإمام (مسلم بن الحجاج القشيري) فقط: (المقدمة) فإنك واجد شيئاً في تحرير مسألة التناول وتحرير أصول النقد.. والرواية.. ومعالجة توجيه قول المخالف وتوظيف اللغة والنحو والبلاغة بما لم يسبق إليه هذا الرجل الجليل.
جرب، دلل.. وهداك وأعانك مولاك بنية وصواب.. وخير فأنت ملاق العلم والرأي السديد, وهي دعوة ماثلة من هذا المنبر الثقافي (الثقافية) إلى الجامعات والنخب المسؤولة بضرورة ضبط هذا العلم بضابط مؤصّل قدير بصرف النظر عن: اللقب.. أو الدرجة العلمية، إنما ضبط ذلك بالقدرات العالية والقدرات القوية الفاعلة، وحماية الموهبة بحماية الموهوب ونتاجه وآرائه ورفع قدره وأمره معنويا، ودفعه للكتابة بجو آمن حر كريم، ودفعه للتجديد الذي تدفعه كوامن الموهبة من هنا.. وهناك.
الرياض