إن التجوال في رحاب البرازيلي البارع باولو كويهلو، نزهة تضاهي شوطا من الاستحمام الروحي المكثف. وفي (كالنهر الذي يجري) - كتابه الذي نحن بصدد الغوص فيه، دار ورد، ط 1، 2007 م، ترجمة : عدنان محمد - اسم يعانق مسماه.
من القلم الرصاص، يستنبط باولو فضيلة العاقبة الحسنى، والمرونة، والفحوى. فحيث يتألم القلم الرصاص قليلا بفعل المبراة، سيزداد شحذا. وهكذا، بقدر تحمل الألم، يلمع المرء. ويذعن قلم الرصاص دوما للممحاة التي تمحو زلاته. إذن، لا يكون تصويب فعالنا سيئا بالضرورة، بل هو هام لإبقائنا فوق طريق العدالة. واللافت في قلم الرصاص أن هيكله الخارجي الخشبي ليس كل الحكاية، وإنما الغرافيت في جوفه. وبالتالي، كل ما ينبغي، العناية بدواخلنا. لكن بالمقابل، يوصينا بالجسد خيرا: «احترم جسدك».
ومهما خال المرء نفسه نادرا، فإن أحدا ما لابدّ وأنْ مرّ من ذات الدرب، وأدرك نفس الحلم، وأعقب علامات ستيسّر المهمة. فتقتضي الحكمةُ نبذَ الشعور بالتفرد، والإقبال على التعلم من الرواد.
ولكل إنسان الحق في البحث عن الفرح الذي يرضيه فحسب، ولا يرضي الآخرين لزاما. وعليه أن يُبقي شعلة الجنون متأججة في ثناياه، ولكن يسلك كإنسان عادي. كما عليه إتقان لغتين : لغة المجتمعات، ولغة الإشارات. فتعينه الأولى على التواصل مع الآخرين، وتساعده الأخرى على فهم رسائل الله.
والعمل الرتيب يئد تفكيرنا فيما نصنع، ويسلب تفكّرنا في معنى حياتنا. وفي خضم الروتين، لا أحد يتساءل :»أيمكنني أن أفعل شيئا آخر ؟». وآنذاك، لا يعدو العمل كونه أكثر من لعنة. إننا غالبا ما نؤمن أن الأمور سيطالها التغيير إذا لم تتبع مجراها المعتاد.
وعن السفر، في جعبة حكيمنا رزمة من النصائح : تجنُبُ المتاحف، إذ في مدينة أجنبية، ليس من النفع البحث عن الماضي أكثر من الحاضر. والسفر بمفردنا، أو مع رفيق واحد، فهي الطريقة الوحيدة لكي نغادر بلادنا حقا. «الأسفار على شكل مجموعات هي طريقة مقنّعة للذهاب إلى بلد أجنبي، مع التحدث باللغة الأم، نزولا عند رغبة قائد المجموعة الذي يكون منشغلا بأحاديث المجموعة أكثر من انشغاله بالمكان الذي يزورونه». والكف عن محاولة رؤية العالم كله في شهر، لأن المكوث في مدينة ما أربعة أيام أو خمسة خير من زيارة أربع أو خمس مدن في أسبوع. «المدينة امرأة صاحبة نزوات، يلزمها وقت لإغرائها، ولكي تنكشف بصورة كاملة».
نحن نتقاسم أجمعين ذلك الخوف العصابي من أن نُعَدّ جواسيس. لكن مهما كان موضوعه سخيفا، إذا ما بدأ أحد حديثا فمن الأفضل الخوض فيه، لأن المدخل يُعدّ غير كاف لإطلاق حكم على روعة الطريق. لكن الكاتب ليس بالضرورة يجيد التكلم أمام الملأ.
إن صلة باولو بالكتب فريدة، فهو لا يقبض عليها إلا أيام قراءته. وفور انتهائه، يطلق لها العنان كيما تسافر لأحد القراء، أو تحط فوق أحد رفوف مكتبة عامة، في الرحلة الجديرة لأيّما كتاب. وهو لا يرمي بذلك إلى إنقاذ الغابات، لكنه ضد أن يجثم الكتاب فوق رف أناني للأبد.
و(الأمل) هي الكلمة التي تبدأ معنا صباحنا، ثم تصاب إبان النهار، وتلاقي حتفها مع الليل. وفي اليوم التالي، تتكرر من جديد ذات الحكاية. لكن التحديات التي نجابهها أهم ما في الحياة، ولذا فقد عدّ الإيرانية (شيرين عبادي) امرأة أسطورة. وعلى أن طول قامتها 1.50 مترا، إلا أن صوتها طال أربعة أركان الأرض، حين تدافع عن حقوق الإنسان. «الحرية المكتسبة بقسوة كبيرة، ما هي إلا منفى مقنّع».
إن الأعداء قد وُضعوا على قارعة دربنا لامتحان سيوفنا، وهم «يستحقون احترام نضالنا». «نحن نختار أعداءنا»، و»نحن نحب أعداءنا، ولكننا لا نتحالف معهم».
ثمة قسمة ساخرة للحياة في توزيع حصة ثناءها الكبرى على رجال الخطوط الأمامية، حتى دون أن يتصبب عرق جبينهم، مع نكران الجنود المجاهيل الذين يقبعون بسكون وراء الكواليس. إن الإنسانية تكمن في رؤية الوجوه المستترة لأولئك الذين لا يسعون إلى الشهرة أو المجد، ومن يؤدون بصمت الدور الذي رسمته لهم الحياة.
ويحيك مقاسات للحياة الجميلة: ذات أيام تُستخدم أفضل استخدام - «لا أحد آخر سيعيش لأجلنا» -، والمتخففة من الهوس في سن قواعد لكل شيء، والكافرة بقانون مورفي الشهير الذي نجنح دوما إلى اعتناقه : «كل ما نفعله يميل دائما إلى السير في الاتجاه الخاطئ».
أما الموت فقد اتخذه رفيقا، يجلس إليه مرارا وهو يزمجر :»سأضربك، ولن تعرف متى. فلا تتوان عن العيش بأقصى ما تستطيع». ولذا فلا يرجئ البتة إلى الغد ما يمكن أن يعيشه اليوم. ويحوي هذا أربعا : الأفراح، والواجبات، وطلبات الصفح عند المساس بأحد، وتأمل اللحظة الراهنة كما لو كانت الأخيرة. ولكن إذا فتك الموت، وشاء اختيار عبارة تنقش على شاهد قبره فستكون :»مات، بينما كان حيا».
إنه يجلب الموت كترياق ناجع لشفاء أعطابنا، لكننا قلما نمعن به الفكر. ولذلك تمضي حياتنا بين قلق من تفاهات، وتأجيل للأمور، وإهمال اللحظات الهامة، والكف عن خوض المغامرات خشية الخطر، والتذمر بإفراط مع الجبن لحظة اتخاذ القرار، والرغبة أن يتغير كل شيء دون أن نتغير. إننا دائما ما نجد عذرا للإساءة التي اقترفناها، ولكن لو تدبرنا في الموت مليّا، لما تريثنا عن المخابرة الهاتفية التي لم نقم بها،.......، وهلمّ جرا. أجل، فرعاية الله تبدو أكثر حضورا بكثير عندما نكون مع الآخرين.
ts1428@hotmail.com
الرياض