يقدح الفيلسوف اللبناني القدير علي حرب في الثورات على نحو مثير للاهتمام. وفي فصل مقصور على الثورات، في أحدث إصداراته، كتاب «المصالح والمصائر.. صناعة الحياة المشتركة» الصادر عن الدار العربية للعلوم، يمضي الكاتب قدما في تحليل السمات الكامنة في نسيج الثورات، بالمجمل.
يحاجج علي حرب أن بنية الثورات، بالأساس، تدميرية الطابع، وليست بنائية، مهما تشدق سدنتها بخلاف ذلك. ومن شأن أنصارها المؤمنين بها في مهدها أن تنقلب أحلامهم الوثيرة كوابيس مرعبة، ويعودون بآمالاهم صفر اليدين، حين يكابدون تهتك الشعارات الثورية على يد المبشرين بها أنفسهم.
ويذهب كاتبنا إلى أن الإرهاب هو السمة التي لا تخطئها العين للثورات. وحتى الثورة الفرنسية كان لها من ذلك نصيب الأسد، وفقا للفيلسوف الألماني هيغل. وعلى ذات الخطى سارت الثورات الروسية والصينية والكوبية. وأما حركات التحرير الوطني لدينا إبان القرن العشرين فحدث ولا حرج.
ومن عادتها، يرى، تقترف الثورات موبقات العهود التي ما جاءت سوى للانقلاب عليها. حيث تنطوي على عقيدة الاصطفاء، ومسلك الإرهاب، وفكر الإقصاء، ونزعة الأحادية، في بوتقة واحدة. ناهيك عن عبادة شخصية القائد، وتصنيم الزعيم الأوحد، حيث تتواضع أمامها عبادة الأوثان في العصر الجاهلي.
ولا تنظر الثورات بعين العطف لأحد، أيا كان موضعه. فأما مناوئوها، فتهرع إلى تصفيتهم تحت طائل العمالة والخيانة، حتى لا تذر منهم أحدا. ثم بعد ذلك تنقلب على نفسها تجاه المتترسين وراءها، لتزج بهم قربانا لتحقيق مآربها الاستراتيجية المهلكة. وهكذا، فهي في الحالين تجرجر الناس نحو الدمار والموت. والمثير للحيرة أن هذا كله يجري تحت بند الحرية والعدالة والمساواة والديمقراطية.
وعلى ذكر الديمقراطية، فإن الثورات أنأى ما تكون عنها، وفقا لعلي حرب. إذ يجري تسويق الديمقراطية ثوريا على أنها مواسم انتخابية، ومسرحيات صناديق وأرقام وبطاقات، في حين أنها، فيما ينبغي، ثقافة تؤمن بالآخر، وعقلية تقر بالاختلاف، وروح ترضخ طواعية لوجود المعارضين.
ويتساءل كاتبنا: كيف تتسنى الديمقراطية الحقة في ظل ثورة تحتكر امتلاك الحقيقة، والقبض على الرشد؟ كيف لذلك أن يقع مع ثورة تسلط سيف الخيانة فوق أعناق المختلفين معها، وتلقي بهم في مهاوي الردى؟ أنّى لهكذا روح أن تتفشى بينما الشعار والحزب والعقيدة الثورية أولى لدى الثورة من الناس والمجتمع والحياة؟
لكن ثوراتٍ ذلكم ديدنها، لابد وأن يرتدّ سحرها عليها، كما يقول، فتستهلك شعاراتها، وتكفر بما جاءت لأجل التبشير به. وهنا تبدأ الثورات بالتآكل، وتسديد الثمن الباهض. وفي ذلك، السبب في غاية البساطة، وهو أن واقعها المستبد المرير يناهض شعاراتها السامية البراقة، وها هنا يكمن الإشكال. ومن أجل ذلك، تضع الثورات نفسها في قفص الاتهام قبالة نفس شعاراتها المدويّة.
وفي حين تروّج الثورات - لاسيما في العالم الثالث - أن إخفاقها مرده إلى مؤامرات الخارج أو دسائس الداخل، فإن الأمر عند كاتبنا خلاف ذلك. إذ تخفق الثورات على نحو ذريع نتيجة الوهم المعلب الذي تبيعه للعقول. إنه وهم العقلية الاصطفائية التي تعتنق فكرة الشرف والاستثناء. ومن شأن الإيمان باستثناء الذات وشرفها عمن عداها أن يضرب فكرة المواطنة العادلة، ويشرخ النسيج لمجتمع المساواة.
كما يتجلى الوهم المركب، لدى الكاتب، في الشعارات الداعية إلى تشييد مجتمع ملائكي خال من التفاوت، يعيش الناس فيه أجمعين سواسية كأسنان المشط، ويمارسون حرياتهم كما يحلو لهم. لكن هذا الفردوس الأرضي المزعوم لا يلبث أن ينجلي عنه قناع الأيام، فيتكشف واقعا مزريا لا مناص له من الخضوع لاستحقاقات الطبيعة البشرية، حيث لا فردوس إلا في السماء، ولا مساواة مطلقة إلا في أذهان الحالمين.
ويختتم الفصل: «إن الغضب الثوري -على ما علمتنا الثورات- لم يعد يثمر في هذا العصر الذي يستحيل فيه النصر باستخدام العنف والسلاح، بعد أن أصبحت المصالح والمصائر متشابكة ومتداخلة. إن لغة الصاروخ والمدفع والحشد المرصوص والجمهور الأعمى لن تصنع حياة، ولن تجلب حرية، ولن تغير واقعا نحو الأحسن. وهذا ماخبرناه في لبنان، فتوالي الثورات وطرح الشعارات وتعاقب القيادات، بمختلف نسخها وعناوينها ونماذجها القومية أو اليسارية أو الاسلامية، لم تصنع إصلاحا أو تجديدا أو تقدما أو ازدهارا، بل أسهمت في اندلاع الحروب الأهلية، وتمزيق الوحدة الوطنية، وتخريب العمران، ثورة بعد ثورة، للعودة بالأحوال والأوضاع إلى الوراء.
لعلنا نحتاج في زمن الانهيارات والكوارث، وعلى ضوء الثورات والتحولات التقنية والمعلومات والعلمية، إلى ثورات من نوع آخر: ممارسة التقى والتواضع، بالثورة على الذات، للتخفيف من أمراضها النرجسية والمركزية والاصطفائية والإمبريالية والاستبدادية. فماذا ينفع الإنسان كل هذا التأله والتقديس الذي ينشر الشعوذة، ويزرع الخراب، ويولد البربرية في أرجاء الكرة؟ ماذا تنفع الشعارات، على اختلافها وتناقضها، إذا كانت مدننا تتحول إلى مايشبه الثكنات العسكرية، حيث الأمن يتدهور من جراء العقول المفخخة، والهويات المغلقة، والثقافات العدوانية، والعصبيات الطائفية أو الحزبية أو المسعورة والمستنفرة؟».
- الرياض
ts1428@hotmail.com