نكاد نجزم بأن فوضى المعلومات هي المقابل لدينا لثورة المعلومات حين نعلم بأن الثورة المعلوماتية ثورة اقتصادية بالدرجة الأولى؛ وبالتالي فإن توفير المعلومات وتوظيفها وتفعيلها بالشكل الجيد والمؤثر اجتماعياً يجب أن يرتبط بمصالح اقتصادية تجارية وصناعية وابتكارية، غالباً ما تلتقي في نقاط مشتركة، وتنتهي بتسويات ملائمة لجميع الأطراف المتشاركة في تحصيل هذه المعلومات والمستفيدة منها.
الاقتصاد تحديداً، بعكس غيره من القضايا الاجتماعية والعقائدية المتشابكة، بإمكانه أن يكون مفتاحاً فعّالاً ومؤثراً في يد نُخبَة اقتصادية سياسية مفكرة للارتقاء بالمستوى الاجتماعي والتنظيمي لأي بلد فكرياً ومادياً؛ لأن البناء الاقتصادي المفتوح والشفاف هو الذي يستطيع توفير بيئة تنافسية ذات فرص متكافئة للجميع، وهو أيضاً الذي يستطيع أن يُشعر الفرد بأهميته وقوة تأثيره من خلال ما يوفره له من معلومات وأرقام عن الناتج القومي وعن الخطط المستقبلية مقابل ما هو واجب على الفرد من عمل وإنتاجية، وفي ضوء تعاقد اقتصادي كهذا بين الفرد وحكومته التي تدير اقتصاده بكفاءة ترتقي المجتمعات شيئاً فشيئاً لشعور تدريجي يعي بشكل أكبر أهمية التعاقدات المؤسساتية عموماً لتنظيم وإدارة المجتمع محلياً وخارجياً من أجل أهداف الوطن ومصالحه الأكبر التي ستُغلَّب حينها على كل ما يدعو اجتماعياً للفرقة طائفياً أو قبائلياً، ولنا في دول كماليزيا وتركيا أسوة حسنة؛ فالاقتصاد بأهدافه التنموية الواضحة هو الوحيد الذي كان بإمكانه أن يجمع الناس هناك باختلاف مشاربهم وأديانهم وتوجهاتهم على «مصلحة» سواء.
ومع ذلك فإنه من الموضوعية بمكان أن نذكر بأن هذه الثورة المعلوماتية الاقتصادية، أي الشد والجذب بين مصالح وأخرى لا يخلو من تأثيرات قد تمتد سلباً ولو بشكل طفيف على البنية الاجتماعية في شكل يعتبره بعض المراقبين الاقتصاديين والاجتماعيين «فوضى خلاقة»، ضرورية لحاضر هذا التحول باتجاه الاقتصاد المعرفي الجديد، كما أنها ضرورية أيضاً لتماسك هذا الاقتصاد مستقبلاً، ولكن بالعودة إلى فوضى معلوماتنا وما قد ينتج منها فإن الملاحَظ لدينا فيما يخص هذه «المعلوماتية الاستهلاكية» أنه في غياب أساس اقتصادي جيد وموجَّه، وفي غياب طبقة من الائتلافات الاقتصادية الرشيدة والمنتجة التي يمكن الاعتماد عليها فإننا نتركها بذلك (المعلومات) عن «غفلة» خاطر لترتبط مباشرة بحساباتنا الاجتماعية المفككة؛ فيتم توظيف الكثير منها بشكل مُتحيز وغير منتج، سواء كان ذلك على شكل شائعات اجتماعية أو إثارات إعلامية وسياسية لتصفية حسابات سابقة أو إثارة أخرى قادمة.
كنا نعلم مسبقاً، ومنذ زمن بعيد، بحجم انقسامات مجتمعاتنا، ونحن نتعامل مع بعضنا البعض على هذه الأرض في حدودها الجغرافية الضيقة، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع الافتراض الواقعي الجديد من أن يُخبرنا مرة أخرى اليوم بأننا ما زلنا في الوضع ذاته ونحن نرى صورة هذا التفكك - أي صورتنا - على وجه الأقمار الاصطناعية في هيئة قنوات يُفترض أنها تمثل ثقافاتنا ومجتمعاتنا، قنوات لم يعد يعنيها أن تكون قنوات وصل واتصال كما يجب أن تكون بل أصبحت قنوات فصل وانفصال؛ حيث اقتنعت ولو ضمناً بأنه من الأجدى لها مالياً - ولا أقول اقتصادياً؛ لأن الاقتصاد في مفهومه الاجتماعي أعمق من ذلك وأجدى - أن تقتات على المعلوم من خلافاتنا عوضاً عن المجهول من اتفاقاتنا.
أضف إلى هذه القنوات الفضائية منتديات وتكتلات امتلأ بها الافتراض الواقعي لنصرة نسب أو طائفة أو فرقة تضخ أمواجاً من المعلومات الماضوية المتلاطمة، محققة وفرة معلوماتية غير مدققة أو محققة منهجياً وعلمياً كما ينبغي لها، ومع ذلك يتم تداولها بشكل سريع وكثيف عن طريق المواقع الإلكترونية والهواتف المحمولة والبريد الإلكتروني؛ ليتم إثر هذا التراكم بناء معرفة عاطفية لحظية تُستخدم لتوجيه الأفراد والجماهير لأغراض ومقاصد اجتماعية أو سياسية فئوية بعد أن تُحقن خطابياً بعاطفة الغيرة على الدين أو بعاطفة الحميّات القبائلية أو العصبيات القومية، فيما أنه أقل ما يمكن أن يُقال عن نتائج هذه المعرفة أو الثقافة المتكونة نتيجة لهذه المعلومات بأنها كارثية؛ فهي تُعيد بناء ماضي مُتوهم وتُضيع أي فرصة ممكنة لبناء مستقبل أفضل.
الثورة المعلوماتية ثورة اقتصادية في المقام الأول، سُبلها أدوات الاتصال التقنية الحديثة، وغايتها إنتاج معارف وأدوات مبتكرة وتقدمية باستمرار؛ وبالتالي هي وُجدت لتوحد الجهود لا لتفرقها، أي أنها وُجدت للالتقاء والتكامل وفقاً لمبدأ التفاوض الشهير (win، win) أي الالتقاء باستمرار عند النقطة التي يمكن أن تحقق الربح لطرفين أو أطراف متعددة أفراداً كانوا أم جماعاتٍ وأوطاناً، وذلك في ظل ما توفره وتُعلّمه هذه الثورة المعلوماتية لحظة بلحظة من «مشاركة» واسعة و»تعاون» فعّال يفترض منه أن يزيد من مكاسب «الثقة» بين البشر على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم؛ وبالتالي يُقلل من خسائر «الخوف» الغريزي من الآخر, المُحتمل ظهوره وظهور المُستغِلين لهُ والمستغَلين مِنه ما بين أزمة وأخرى. بهذا الوعي المعلوماتي فقط يمكننا بناء «مجتمعات معرفية» (ما بعد المجتمعات المدنية)، متنوعة الأجناس ومتكاملة الثقافات، لكن العكس تماماً هو ما تفعله - بكل أسف - فوضى معلوماتنا اللااجتماعية (الانقسامية)، وبكل تأكيد غير الخلاّقة.
- جدة
Alturki.tt@gmail.com