أولا: القانون الفرنسي الذي حظر على المسلمات النقاب أو البرقع في الأماكن العامة وأماكن العمل، هو قانون آخر وليس أخيرا يفضح المعايير المزدوجة لليبرالية الغربية التي تتعامل بها مع كل من ينتمي إلى الإسلام والذي يتشدق بها للدفاع عن ثقافة الحريات الإنسانية وقيم العلمانية، وكأن المسلمين دائما يُستثنون من التمتع بتلك القيم.
ولعل قصة مقتل الشهيدة «مروة الشربيني» على يد ألماني متطرف بسبب حجابها ما زالت وصمة عار على جبين «الليبرالية الغربية» التي عادة ما تضرب بالمادة رقم «18» من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تضمن لكل شخص» حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حده.»
و المادة الخامسة من وثيقة اليونسكو على أن من حق كل شخص». أن يمارس تقاليده الثقافية الخاصة، في الحدود التي يفرضها احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية».
عرض الحائط تارة باسم الحرب الاستباقية على الإرهاب كما فعلت أمريكا وتارة باسم المحافظة على قيم العلمانية والجمهورية وخصوصية المجتمع والكرامة ومقاومة الاستعباد كما تفعل فرنسا اليوم التي يبلغ عدد المسلمين فيها «5» ملايين نسمة من «60» مليون، أي أنها أقلية لن تؤثر على تغيير التقاليد العلمانية للحياة الفرنسية أو على جوهر دستورها اللائكي.
وقبلها سويسرا التي حظرت بناء مآذن المساجد بنفس الحجة! وألمانيا التي تتحرك في الخفاء لمناهضة نقاب المسلمات منطلقة من نفس منطق السيد «ساركوزي» محاربة الاستعباد.
ومن ناحية أخرى فإن «الدستور اللائكي» الذي تعمل به فرنسا منذ عام «1905» يعطي العلمانية مضمونا إيجابيا: «تضمن الجمهورية حرية المعتقد. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية « فالمادة الأولى من الدستور الجمهوري الفرنسي تنص على أن الجمهورية « تضمن حرية المعتقد. وتضمن حرية ممارسة العبادات..»
وجوهر الدستور الفرنسي الأول 3 ديسمبر 1791 اعتبر أن: حرية الإنسان بممارسة العبادات الدينية للدين الذي ينتمي اليه حق طبيعي ومدني».
كما أن الركيزة القانونية الثانية للعلمانية هي «حرية المعتقد» أو الحرية الدينية التي تكفل لأي إنسان من ممارسة شعائر دينه سواء على مستوى المضمون أو الشكل.
وهكذا نلاحظ وفق قوانين العلمانية والجمهورية الفرنسية أن القانون الذي حرّض على تشريعه السيد» ساركوزي» باطل لأنه يتعارض مع جوهر اللائكية المؤسِس للدستور الجمهوري الفرنسي الذي يقوم على «حرية المعتقد والمساواة والتسامح على أساس أن الدين لا يتحكم في الدولة أو يسيّرها كما أن الدولة لا تتحكم في الدين أو تسيّره». بالتالي فهو لا ُيلزم المنقبات بتنفيذه فما بني على باطل فهو باطل.
ثانيا: من هو «ساركوزي» الذي يقرر أن «مظاهر الحجاب الإسلامي هو رمز لاستعباد المرأة، وأن:» البرقع ليس رمزا دينيا وإنما رمز استعباد للمرأة» وأن» البرقع غير مرحب به في أراضي الجمهورية الفرنسية والحجاب الإسلامي لا يزال محظورا في المدارس الحكومية الفرنسية «.»لا يمكن أن نقبل في بلادنا نساء سجينات خلف سياج ومعزولات عن أي حياة اجتماعية ومحرومات من الكرامة، هذه ليست الرؤية التي تتبناها الجمهورية الفرنسية بالنسبة لكرامة المرأة».
وأي كرامة وحرية يتحدث عنها السيد «ساركوزي»؟
ووفق الاستطلاعات التي سبقت تنفيذ هذا القانون فكثير من الفرنسيين لا يمثلهم رأي ساركوزي فيما يتعلق بالنقاب والحجاب، ولا يؤيدونه،ليس لقناعتهم به، إنما لقناعتهم بوجوب ممارسة كل شخص حريته الإجرائية الممثلة لمعتقده بما أنه لا يعرض المجتمع للخطر.
وبالتأكيد فإن نقاب المسلمة لا يحمل أي خطر على المجتمع الفرنسي.
كما أن رأي «ساركوزي» يتعارض مع جوهر الدستور الفرنسي، أما الخوف من انتشار الإسلام في فرنسا فليس النقاب هو السبب بل قيم الإسلام ذاتها وجوهر تشريعاته التي تتناسب مع الفطرة السليمة للإنسان.
وما مفهوم كرامة وحرية المرأة التي يؤمن بها السيد «ساركوزي» أن تمشي المرأة عارية في الشوارع أو تظهر عارية على غلاف المجلات على طريقة «مدام كارلا»؟!
هل العري وتعدد العلاقات الجنسية للمرأة وممارستها للإباحية وتحولها إلى سلعة هو الذي يرفع عن المرأة رمزية الاستعباد ويحقق لها الحرية والكرامة؟.
ومع كل ذلك فكل امرأة تملك حق الحرية أن تفعل ما تشاء أن تلبس ما تشاء أن تعبر كما تشاء بما أنه لا يضر المصلحة العامة للمجتمع وحرية الآخرين، فالرب في السماء والقانون في الأرض.
ثم إن الحجاب لم يستعبد أبدا حرية المسلمة أو طاقتها الفكرية أو العقلانية أو دورها الإنتاجي أو دورها الثوري والتغييري ولا نذهب بعيدا فلدينا المحجبات والمنقبات المصريات اللائي شاركن في ثورة 25 يناير، والآن نشاهد آلاف من» الليبيات» كتف بكتف مع شباب الثورة الليبية، و «اليمنيات» في صفوف شباب الثورة يهتفن ويعتصمن ويعالجن الجرحى بنقابهن،فلم يمنعهن النقاب من المشاركة في الثورة وقبلهن المصريات لم يحبسهن النقاب داخل بيوتهن.
لكن رجل مثل «ساركوزي» معروف «ملفه الأخلاقي» أنى له التأمل والمعرفة وإدراك قيمة الأشياء.
«وسيذهب ساركوزي إلى الجحيم وسيبقى نقاب المرأة المسلمة في فرنسا».
ثالثا: قد اعتقد أن النقاب أو البرقع ليس جزءا أصيلا من الحجاب وهذا الاعتقاد لا يخولني لمصادرة حق المسلمة في النقاب أو البرقع.
أو أن أعتقد أن النقاب أو البرقع هو جزء أساسي من الحجاب وهذا أيضا لا يخولني لفرضه على أي مسلمة وأشكك في صدق التزامها الشرعي لمجرد أنها لا تلتزم به.
إذن حرية الممارسة مكفولة لكل معتقد وفق ما يسّنه المرء لنفسه من معتقد خاص أو من خلال ضوابط معتقده الجمعي فيما لا يضر بالمصلحة العامة للجماعة أو يسبب أي تمييز عنصري أو ديني ضد جماعة أخرى.
ولنا في المذاهب الفقهية أسوة حسنة، لقيمة حرية الاختيار والتطبيق وفق سماحة الشريعة الاسلامية ومراعاتها لأحوال المسلم وتطور مقتضيات حياته لتطبيق المبدأ النفعي لهذا الدين في أنه «صالح لكل زمان ومكان»، وهذا هو جوهر القيمة النفعية لعلمانية التشريعات الإسلامية
رابعا: أين عيون وأذان صناع تقارير وزارة الخارجية الأمريكية التي ما تلبث سنويا أن تُصدر تقارير تتهم فيها السعودية بغيا وبهتانا بغياب «الحرية الدينية» و «التمييز ضد الاقليات الدينية» في السعودية «والتضييق على ممارسة شعائرهم الدينية».
ففي السعودية التي تتهمها تقارير وزارة الخارجية الأمريكية بتغييب الحرية الدينية لم تفرض أبدا حكومتها على أي امرأة غير مسلمة سواء عربية أو غير عربية بالتقييد بضوابط الحجاب العام في السعودية أي «لبس العباءة وتغطية الوجه» للمحافظة على خصوصية دستور البلد «الدستور السلفي» أسوة بالمنطق الساركوزي.
ولو فعلت السعودية ذلك وفق المنطق الساركوزي لأتهمها الغرب بالتطرف والارهاب والتمييز العنصري والديني ضد المرأة.
بينما خرست كل ألسنة الغرب وهم يشاهدون فضيحة «التمييز العنصري والديني» الذي ترتكبه فرنسا ضد المنقبات المسلمات، وتصادر حقوقهن الدينية في إجرائية معتقداتهن.
فأين ليبراليو وليبراليات العرب من هكذا انتهاك لحقوق المرأة المسلمة أم أنهم
لا يريدون أن يفضحوا الغرب الذي يسبحون بعلمانيته وليبراليته وتطوره الحقوقي؟
لكننا نرى ألسنتهم وأقلامهم تُشحذ وتنشط عندما يتعلق الأمر بإسقاط الحجاب والتعريض له.!
فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه.!
فتبا لهكذا ليبرالية.!!
وقفة:
*تحيا الثورة الليبية واليمنية وكل امرأة عربية رفضت الاستبداد فشاركت في الثورة.
*تحية للناشط الحقوقي السوري والكاتب وزميلنا في الثقافية الأستاذ «فايز سارة» وأتمنى له خروجاً قريباً من معتقله.
sehama71@gmail.com
جدة