(1)
خرجتُ برفقة أصدقائي عصراً من الظهران صوب عاصمة البلاد ومعرضها الدولي للكتاب، غير أن ما تناقله الركبان منذ ساعة افتتاحه، وما رأيناه خلال ساعتين ونحن نتجول في أرجائه، جعلنا نغادره، كما خرج جدنا من الدهناء «خفافاً عياباً»، لولا أننا استمتعنا بلقاء بعض الوجوه الصديقة التي تحمل معاني الفكر الحي والإبداع النابض في بلادنا، فتشاركنا معاً مرارة الألم لمرأى تلك الطواويس وحشودها من صغار السن والمريدين التي أدمنت متعة إفساد معارض الكتاب والملتقيات الثقافية في كل مكان، وكأننا نرى عجلة التطور تعود إلى الوراء من جديد.
غادرت المعرض خالي الوفاض إلا من أحمال موجعة لا تخطئ موقعها من القلب، غير أن الكتب القليلة التي تلقيتها «هدية» من بعض الباحثين الشباب (مجاهد عبد المتعالي وسالمة الموشي) وتسنى لي قراءتها فيما بعد، كانت كافية لتعميق يقيني بأن الذات «المفكرة» والذات «المبدعة» تمتلك القدرة على تجاوز كل العتمات والتحليق أعلى من سطوة السرب المتماثل، حتى في طريقته وهو يسير خارج المكان والمرحلة!
(2)
«حرية الرأي» و»الحجامة»
خلال عامين متتابعين أنجز الباحث الشاب «مجاهد عبد المتعالي» كتابين لافتين هما «حرية الرأي والتعبير بين السيادة والعولمة»، و»حجامة العقل بين العدمية والأدلجة». ورغم ما يتبدى من تشابه في طريقة «سكّ» العنوانين، وتحديد قطبي الجدل والصراع، إلا أن كتابه الثاني قد تفلّت من أسر القطبين إلى مقاربة أقطاب أخرى، تتداخل وتتعارض ضمن مجال الصراع الرئيسي.
هذان المؤلفان حتماً سيلفتان انتباه القارئ إلى ما يتوافر عليه المؤلف من أدوات بحث، وسعة اطلاع، وتماسك بنيوي لكتابة مؤلف، وإلى ما يمتلكه من لغة تجمع بين دقة التحديد ورهافة البناء الجمالي، يفتقر إليها بعض أقرانه الشباب. و»مجاهد» من مواليد تبوك في عام 1973م، وهذا ما يهيئنا للاحتفاء بشاب جاد، استعان بدراسته للماجستير في العلوم السياسية، لتعميق اطلاعه على القانون، والعلاقات الدولية، وليتكئ على نفسه في قراءة كتب التنوير وفلسفتها الفكرية والسياسية والحقوقية، وتاريخ الثورة والنهضة الأوروبية خلال القرون الثلاثة المنصرمة؛ لكي يصدر مؤلفه الأول عن «حرية الرأي والتعبير». كما أنه من الجانب الآخر قد أفاد من عدته الدراسية التقليدية في تخصص «الشريعة» لتعميق مجالات اطلاعه على هذا المجال الثري في تطوير معرفته بالتراث وفيما صدر حوله من كتابات معاصرة؛ ليخرج لنا مؤلفه الثاني «حجامة العقل».
عن المعهد العربي للتنمية والمواطنة صدر كتابه «حرية الرأي والتعبير» في عام 2010م، وعُني فيه بالبحث حول محددين رئيسين يعيقان تلك «الحرية «، أولهما ما تتذرع به الدول من تفسيرات واستخدامات متعسفة لمفهوم «السيادة»، من أجل إعاقة تطبيق مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان، والثاني هو «العولمة» في صراعها مع مفهوم السيادة.
والكتاب يحفل بالعديد من القضايا، ولكنني هنا سأعرض لأهم نقاطه المركزية:
أ - حرية الرأي والتعبير في المعاهدات الدولية:
يشير الكاتب إلى أن «الميثاق العالمي لحقوق الإنسان»، الذي وُقِّع عليه في عام 1945م، قد كفل حق حرية الرأي والتعبير عنه معاً بدون محددات، ولكنه لا يتضمن أية بنود تلزم الدول الموقِّعة عليه بتطبيقه، وبذلك يغدو «الميثاق» مجرد مرشد أخلاقي عام للدول كافة!!
أما العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (وُقِّع عليه في عام 1966م) فقد نص على حق حرية الرأي والتعبير، ولكنه سمح لمبدأ «السيادة» بأن يتسلل ثانية إلى محتواه عبر إمكانية تدخل الدول في تكييف مضمونه بشروط، منها: الأمن القومي والنظام العام، والآداب العامة.. فاستثمرته بعض الدول الموقِّعة عليه، لتدعيم مبدأ «السيادة»، والآداب العامة (حتى أن مصر في عهد السادات سنَّت قانوناً أسمته قانون «العيب»)، فأفضى ذلك في مصر وفي غيرها إلى خنق حرية الرأي والتعبير معاً، بما في ذلك الحق في التنقل وحرية السفر إلى الخارج.
ب - الميثاق العربي لحقوق الإنسان:
بُدئ في إعداد هذا الميثاق في عام 1967م، وبقي نائماً في أدراج مؤتمرات القمة حتى انعقادها في تونس عام 2004م، حين تمت الموافقة الجماعية عليه، وعلى العمل به، بغية امتصاص موجة الديمقراطية وحقوق الإنسان التي انتشرت في العالم العربي، عقب أحداث غزوة «سبتمبر من عام 2001م»، وما تبعها من ضغوط دولية في هذا الصدد.
وبرغم ما تضمنه الميثاق من بنود حقوقية جيدة في مجالات عدة، ومنها كفالة حرية الرأي والتعبير، وحرية تكوين جمعيات المجتمع المدني الأهلية، إلا أنه بقي حتى الآن حبراً على ورق التاريخ في الكثير من الدول العربية!
ج - سيادة الدولة، وحرية الرأي والتعبير:
يقصد بسيادة الدولة في الاصطلاح - بحسب الكتاب - «السيادة القومية»، ومعناها أن الدولة هي صاحبة السلطة العليا داخل إقليمها.. أي أن الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها؛ لأن علاقات الدولة بالدول الأخرى مقيَّدة بقواعد القانون والعرف الدوليين.
وحيث إن الجوهر الرئيسي الذي قامت عليه الدولة (في مسار تطورها التاريخي) يصب في مجال تحقيق الأمن للجماعة المنضوية تحت لوائها فإن مفهوم «السيادة» ينبثق من ذلك البُعد الذي منح حق احتكار أدوات العنف للدولة، باعتبارها مؤسسة المؤسسات.
ولكن الكاتب يتساءل: تُرى لو أساءت الدولة استخدام العنف حين تحرم شعبها من الحياة الطبيعية، وتتعدى على حقوق مواطنته؟ فهل يجوز للآخرين دولاً أو جماعات التدخل للمساعدة في فسخ هذا العقد مثلاً؟
وقد تحرّز المؤلف في حسم الإجابة عن السؤال، ونحن معه؛ ذلك أن تطوير هيئة الأمم المتحدة لتصبح مجلساً للحكومات الرشيدة ولحكماء العالم من أجل استحداث قوانين جديدة أكثر عدالة تحكم العلاقة بين الدول بعضها بالآخر، وتتجاوز ذلك إلى فرض الهيبة الدولية والقانونية على الدول التي تنتهك حقوق شعوبها، ما زال حلماً مثقلاً بمصالح الدول العظمى وتفسيراتها المجحفة أحياناً بمفهوم حقوق الشعوب، وحتى حقوق دول العام الثالث أيضاً. ولعل ما نراه اليوم في مواقف تلك الدول من «ليبيا» من جانب، ومن «اليمن» وسواها من الجانب الآخر، وعلى الساحة العربية نفسها، هو أبلغ دليل على ذلك الحلم العصيّ!
هـ - العولمة:
خلاصة جوهر العولمة كما يراه الكثيرون «يتمثل في سهولة تدفق حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على نطاق كوني، حيث استثمرت في ذلك مفاعيل التقنية» و»قوانين التبادل التجاري» من أجل كسر الاحتكار التقليدي لسيادة الدولة على حدودها وفضائها، فأصبح الفضاء مشاعاً لا حيلة لها في التصدي لما يبث عبره من كلمات أو صور أو رسائل.
وفي سياق معالجة صراع الحدين (السيادة، والعولمة) مع بعضهما، وصراعهما مع حيّز حرية الرأي والتعبير وإعادة تشكيله، وفق مصلحتين متعارضتين، يرى الكاتب مع «جلال أمين» بأن «العالم في طريقه إلى بلورة مفهوم جديد للسيادة يركز على العالم أجمع، بصفته الوحدة السياسية التي تحل محل الدولة التقليدية المعتادة» (ص 82).
وضمن هذا الأفق نرى أن التدفقات الثقافية العالمية وسرعتها قد أدت إلى تشكيل أنماط ثقافية تسعى للتأثر بكل الثقافات، خاصة في أوساط الأجيال الشابة، وعبر ذلك يتبدى لنا أن «العولمة « تتغلب - تدريجياً - على مفهوم السيادة، وتنازعها حقوق احتكار محددات الثقافة العامة والأيديولوجيا، التي تعتمدها الدول في تعزيز آليات سيطرتها وسيادتها على أقاليمها.
وترتفع - عبر ذلك الصراع - كثير من القضايا، من فضائها المحلي، كحرية التعبير السلمي عن الرأي الفردي والجمعي؛ لكي تصبح قضايا ينظر فيها نظام سياسات عالمي وحقوقي، هو في طور التشكيل.
وباختصار يمكنني القول بأن الكاتب قد اشتغل بدقة وتأن معرفي موثق على إضاءة أشكال الصراع بين مفهوم سيادة الدولة في أبعادها التاريخية والتقليدية، ومفاعيل العولمة في أبعادها الثلاثة: التدفق الثقافي والمعرفي، وتدفق السلع والرأسمال، وما ينتج منه من هيمنة القوى الاقتصادية الكبرى على الدول الأقل نمواً.
وحيث إنني قد اخترت - فقط - الإشارة إلى صراع (الحدين) في الاستحواذ على فضاء حرية الرأي والتعبير فإنني أرى أن مقدرات العولمة «التواصلية» - تحديداً - في هذا السياق تصب في الاتجاه الإيجابي لتنمية حضور وفعالية حرية الرأي والتعبير، رغم تخوف المؤلف على مصير الثقافات والهويات المحلية في كل أرجاء المعمورة.
(3)
«حجامة العقل»
بين العدمية والأدلجة:
كأني بالأستاذ مجاهد عبد المتعالي، وقد يتأمل ويحلل مأزق الصراع بين «السيادة» و»العولمة»، قد انبرى بنفسه لتحرير قدرة «حرية الرأي والتعبير» من مأزقها الظرفي بين هذين الحدين؛ ليمضي في تأليف كتابه الصادر حديثاً (عام 2011) تحت هذا العنوان، دون حاجة إلى انتظار ما ستسفر عنه معركتهما من مآلات، مستخدماً أدواته المعرفية الجادة، كمبضع «الحجامة» المعروف لإخراج الدم الفاسد من هذا العقل المدجج بسكونيته!
وفي هذا الكتاب يوغل دونما «رفق» في العديد من القضايا والإشكالات الثقافية؛ ليسمي الأشياء بأسمائها، وليفصل بين الدال ومدلوله؛ ليكتب لنفسه أولاً، بتدفق ورهافة لا تتوافران للمتأمل الموضوعي من خارج الحالة المعاينة، وإنما للسابح في سديم «حمم» الأشياء والكلمات، قبل أن تؤطرهما المواضعات والمؤسسات والمصالح، ماضياً على طريقة المفكر (كيركيجارد) الذي تحدث عنه وعن فكره الوجودي في أول المتن، ومبرزاً تفريقه بين المفكر الموضوعي والمفكر الذاتي، حيث إن الأخير يفضل أن ينغمر بنفسه في الجانب الانفعالي للوجود؛ ليعيش هو نفسه ما يفكر فيه، وذلك ما حاوله المؤلف هنا!
وإلى جانب ذلك نراه وقد أفاد بدون شك من اطلاعه المنظّم، لا على الأفكار وحسب، وإنما على طرائق خاصة في الكتابة نجدها عند «القصيمي» و»سارتر» و»فوكو»، حيث تتحرر الذات من رقيبها، وتغدو الكتابة بين أيديهم مرجلاً تتخلّق فيه الأفكار عبر اشتعالات الحالة الانفعالية الوجدانية والشاعرية؛ فتصبح بذلك «الحرية المبهمة، والمحيّرة، والباعثة على النشوة، هي نقطة الابتداء في البناء التأملي»، بحسب أحد عشاق سارتر.
وقد وقفت ملياً أمام مواد هذا المتن اللافت؛ فاتفقت مع الكثير من رؤاه، واختلفت مع القليل، بيد أنني - ولظروف عديدة - سأكتفي بهذه الإلماحة المقتضبة عنه.
يضم الكتاب مقدمة وتمهيداً في فصلين، هما: تميمة البدء، وفاتحة الوجع، وسبعة فصول أخرى، أهمها: غريزة الدهماء، أنثوية النسق في حرملك الجبرية، لاهوتية الدين وناسوتية الشريعة، الغثيان وثقب النوايا، وغيرها.
وقد استوقفني، لقربه من اهتماماتي الأدبية، فصل «أنثوية النسق في حرملك الجبرية»، حيث يتحدث فيه على مفهوم «النسق» داخل المنهج البنيوي، فلا يراه الكاتب سوى «اختزال للواقع من خلال اللغة فقط؛ لأن البنيوية قد نظرت إلى اللغة باعتبارها بنية قائمة بذاتها، تستوفي شروط تشكلها، متجاهلة أي تطور زمني، أو إحالة تاريخية إنسانية؛ لتجعله (الواقع) مكبلاً داخل نسق، لا يملك إرادة الفكاك منه، مع ما في ذلك من طابع الجبرية على المستوى النفسي والاجتماعي» (ص 39).
وعلى هذه الخلفية يشير إلى قراءات الدكتور عبدالله الغذامي للخطاب العربي، من خلال بضعة شعراء عرب، أفضت به «مسطرتها» إلى وصف «أدونيس» بالفحولة والرجعية. كما يعرض لجانب من حوار الدكتور الغذامي في قناة «دليل» حين صرح بأنه يقبل وصف الانطباعيين، بهدف الستر على بعض الحداثيين!
ومن الجانب المقابل يتساءل فيما إذا كان وصف أدونيس للغذامي بأنه «إمام مسجد» نابعاً من خليقة «الستر» التي وصف بها نفسه في ذلك الحوار التلفزيوني، أم من تجنب الغذامي قراءة الكتاب المقدس الممتد منذ أربعة عشر قرناً حتى اليوم في وجدان قارئه؟
ويوضح هنا بأن «أدونيس» نفسه قد عجز عن ذلك في كتابه «الثابت والمتحول».
ولعلنا نخرج من كلمات المؤلف باستنتاج حول هذه الخصومات والتسميات غير الثقافية بين الطرفين (أو غيرهما)، للقول بأنه كان حرياً بكليهما، أن يحاورا وجهات نظر بعضهما ضمن إطار «حرية الفكر»، وليس ضمن «فحش الخصومة» ودعاواها البائسة.
الظهران