من يكتب الفصلَ الأول من الحكاية قد لا يكتب الفصل الأخير فيها؛ ومن شاء إغلاقًا بالأمس ارتدَّ انطلاقًا اليوم؛ فأُبعد ليعود، وظُن شرًا فصار خيرًا، وكذا هي الحياة، يمضي فيها قدرُ الله، لا رادَّ له، ولا معقِّب لحُكْمه.
في مقتبل شبابه غادر بلاده وصلاً لعلم اكتسبه وتعزيزًا للغة أحبها، ولم تمنعه حداثة سنه ووسامة شكله أن يعتمر الشظف وقد اعتاد الترف؛ فيسكن الطين، ويسير في الظلماء، ويفتقد السرير الوثير ومحطة التلفزيون الأثيرة ودورة المياه المرتبة؛ فعاش خمسة أعوامٍ هي الأثرى؛ مودعًا بريطانيا «العظمى» مستقبلاً مدينة صغيرة في وسط الجزيرة العربية بدت نقطة التحول الأبرز في مسيرته.
أحب الناس فأحبوه، وعشق الأرض فاحتوته، وصار شبابها أصدقاءه، وكبارها آباءه، ومثل ظاهرة أثارت بعض الغبار حول دوره وأهدافه والتفاف الناس حوله، والتقت معادلة الإغلاق بالإملاق فَما لهذا الخواجة المُنعَّم ولبيئتنا النائية النامية، وما له ولأبنائنا المفتتنين به يسامرونه ويسايرونه إلا أن يكون الثمنُ تغريبًا أو تغييرًا؛ فكادوا له ثم أخرجوه.
كذا جاء الفصل الأولُ يحمل بشارة الانتصار لمن أرادوا البلد خاضعًا لوصايتهم، وتجاهلوا أن الإلغاء لا يتم بقرار استعدائي ولا ممارسة استعلائية أو رغبة أحادية؛ فقد ودع الشباب أستاذهم وصديقهم ليتواصلوا معه في بلده «بريطانيا» وحيثما حل قريبًا أو بعيدًا، وعبر الهاتف والبريد والوسطاء؛ فلم يغب عنهم مثلما لم يغيبوا عنه، وهنا الدرس الأهم لفكر المصادرة الذي يظن الحجبَ طريقًا والتصنيف رفيقًا.
كان يمكن له أن يأخذ موقفًا من الدين؛ فمن سعوا ضده محسوبون على التيار «المتحفظ»، لكن عقله ووعيه وأفقه مكنته من التمييز بين الإسلام وبعض أتباعه؛ وبقي من ديدنهم الشك حيث هم يكررون قراءة الفصل الأول، وتجاوز المُبعد وأصفياؤه الصفحاتِ الأولى؛ فرسموا فصولاً تالية توَّجها إسلام الرجل مقتنعًا بعد رحلة شك طويلة حملته من الإيمان بإله ثلاثي للإلحاد للبحث في الأديان الأخرى حتى وجد كل الإجابات المعلقة في الإسلام الذي س»يظهره الله على الدين كله» رغم سوء وضع المسلمين ورداءة من يمثلونه من ذوي التيارات الغارقة في وحل العنف والشك والسلطوية ونفي الآخر.
السيد جيمس «يوسف» مايكل بَدْ (بريطانيا 1943 -) قدم إلى عنيزة عام 1965م، ومكث فيها حتى عام 1970م حين صدر قرار نقله من عنيزة للرياض استجابة لضغوطٍ شخصية، وقد أكمل فصلاً دراسياً في ثانوية اليمامة ثم غادر لبلاده، وأسلم في عام 1988م، وحج عام 1996م، ثم رجع إلى عنيزة بعد غياب أكثر من أربعين عامًا (2011م) بدعوة خاصة من طلبته الذين احتفوا به في مدينته - كما يؤكد انتماءَه إليها - وفي الرياض وفي المنطقتين الشرقية والغربية حيث أدى مناسك العمرة.
طلبته بارزون، وفيهم من يتسنمون وظائف: وزير ونائب وزير ورئيس ونائب رئيس وأستاذ جامعة وقيادي في القطاع الخاص، وقد استعادوا - بعودته - أيام الشباب حيث خصبُ التكوين واستنارة التوجه وجاذبية البيئة وجمال الصداقة ودفءُ المحبة؛ فشكرهم وهم - لدوره في تجمعهم - شاكرون.
الأستاذ يوسف يضع اللمسات الأخيرة على كتاب يحكي تجربته خلال السنوات الخمس التي قضاها في عنيزة، وسوف يكمله بكتابة الفصل الأخير المقارن بين مرحلتين وتجربتين وتاريخين، ويلحّ عليه عارفوه بسرعة إنجازه لطباعته وترجمته للغة العربية مزودًا بما تيسر من صور ووثائق.
«يوسف مايكل بد» إنسان راقٍ بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ يضيئه تواضع وأدب وهدوء؛ فشكرًا لمن استعادوه، وشكرًا لمن لم يتخلوا عنه أو ينفضُّوا من حوله؛ فقد وفَوا زمنَ الضيق، ومثلوا نماذج جميلة لدين عظيم يرفض وجود رجالٍ له؛ فكانوا الخيط الأول في أضواء اهتدائه.
«الدين المعاملة».
Ibrturkia@gmail.com