لا يعاني شرقنا العربي -قديماً أو حديثاً- من نقص في الطاقات البشرية، ولا من ضعف في مستوى الذكاء أو الجدية، ولا في وجود العمق التاريخي الحضاري؛ بقدر ما يعاني من خلط بين نوعين مختلفين كلياً من المبادئ والقوانين المرتبطة بها.
هذان الصنفان الرئيسان يكونان العمود الفقري لعلاقات المجتمعات البشرية بعضها ببعض من جهة، وكذلك علاقات الأفراد أو الجماعات في حالات التواصل داخل المجتمع الواحد. ويمكن أن نطلق عليهما المصطلحين السائدين في الدراسات الاجتماعية والقانونية: المبادئ الأخلاقية والمبادئ المدنية، ويقابلهما القوانين الأخلاقية والقوانين المدنية. وعلى اختلاف كل من المسارين عن الآخر، إلا أن المعايير المحددة لأطر القوانين المدنية تمثل انعكاساً لتلك الأطر المتوارثة أو المتراكمة في تجارب الأمم في سن القوانين التي تحكم المبادئ الأخلاقية. لا نريد الإسهاب في فلسفة هذه الثنائيات وتداخلها، لكن ما يلزم توضيحه أن المبادئ الأخلاقية أقدم تاريخاً من التشريعات المدنية؛ إذ وجدت منذ أن شكّل الإنسان تجمعاته الأولى، من أجل التعاون أو درء الأخطار أو التزاوج وغير ذلك من الأغراض الإنسانية. كما أن ملكية تلك المبادئ ليست خاصة؛ بل يمكن أن تستعار وتتلاقح بشأنها الأفكار في ديناميكية التطور الإنساني.
وفي خضم هذه التطورات، ولمّ شتات تراكمات الثقافات البشرية، نشأت في العصر الحديث اتجاهات فكرية؛ صاحبتها مبادرات سياسية. وتكللت تلك المبادرات بنجاح تكوين الشرعة المرجعية لمبادئ الإنسان الأخلاقية (في التاريخ البشري) مصحوبة بمعايير تتشكل على أساسها ثقافة الإنسان السياسية والاجتماعية في العصر الحديث. وقد استقرت منذ عام 1948م في المدونة التي أطلق عليها «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، حيث تكون فيها الحقوق والحريات ملازمة للواجبات والالتزامات.
عودة إلى مجتمعاتنا الشرقية، ومجتمعات شبه الجزيرة العربية على وجه الخصوص، لنرى ما الذي يحدثه لديها ذلك الخلط بين المستويين. وأشعر في هذا الصدد بضرورة تأكيد ما سبق أن لاحظته زميلتي الفاضلة الدكتورة وسمية المنصور على مقالة سابقة من عجزنا عن تناول كل النماذج، لكن مقولة: «ما لا يدرك كله لا يترك جله» تبقى سارية المفعول. ولنأخذ أمثلة قريبة من الواقع السعودي: أحدها من انتخابات المجالس البلدية التي هالني في أمرها ضبابية فكر المقترعين، أكثر من المرشحين الذين لم نتوقع أصلاً نضجاً في رؤيتهم لتلك المواقع المتعلقة بالشأن العام، ودورهم المحتمل فيها. فهم قد اعتادوا على كون الجاه والمال هما المبرر لعلو الشأن والحظوة لدى المجتمع بشقيه القروي والعشائري؛ لكن أن يكون الناخب أيضاً ينطلق من تلك المنطلقات، وكأنه يتوقع أن يقوم ذلك المرشح برد الجميل له في حالة فوزه، فهذا بعيد عن الانخراط في مؤسسات مدنية، ويدل على عدم الفصل بين خريطة القوانين الأخلاقية في ذهن الفرد، ومسلمات العمل المجتمعي المقننة ضمن المبادئ المدنية. والمثال الآخر من واقع الجدل الذي أثاره قرار السماح للمرأة بالانخراط في انتخابات المجالس البلدية؛ اقتراعاً وترشحاً بدءاً من الدورة الانتخابية القادمة. فما أن أصبح معلناً، ولم يعد بإمكان القوى، التي تسعى بكل ما تستطيع إلى إقصاء المرأة، دفعه أو تغييره؛ بدأ بعض أصحاب الأصوات العالية في تلك القوى بالتشريع في هذا الشأن بما يوافق هواها. فأصدرت بعض الفتاوى أو ما أشبهها تنص على أن المرأة التي ترشح نفسها للانتخابات البلدية -خلافاً للرجل- لا يجوز لها أن تروج لنفسها من خلال صورتها. ليست هذه الجزئية هي المهمة في الأمر، لكن الأهم أن لكل شيء مدني لا بد من قانون، وما يفعله أولئك هو افتئات!
الرياض