في مقاله المنشور بالجزيرة، العدد 14251 الصادر الأربعاء الواقع في 7-10-1432هـ - 5-11-2011م أثار الزميل الصديق، والأكاديمي المتفاعل مع مجتمعه، والمؤرخ العارف بالخلفيات والانعكاسات الدكتور محمد بن عبدالله آل زلفه، في مقاله الذي جاء تحت عنوان (ألف مثقف يلتقون فجأة.. ودون سابق علم!).
أثار، وإن من خلال موضوعٍ محدد، إشكالية ثقافية برؤية كاشفة للسائد بحيث تستدعي التساؤل عن الروافع والخوافض، والحاضر والغائب، والنظر في حجم الإشكالية ونوعها، والأسباب والدوافع والكيفيات والإمكانات المؤدية إلى استشراف يؤمن الوصول إلى ما ينبغي فعله للمستقبل.
المصدر الأساسي، والأفعل للحضارات منذ فجر التاريخ حتى يومنا: الثقافة التي صنعها الإنسان بعد أن خصه الله دون باقي مخلوقاته بعقل يفكر ويتأمل، ويراقب ويلاحظ، إيقاع الطبيعة، وحركة الكون، ونطق يعبر بواسطته ويحاور، ويخاصم ويصالح، ويتفاهم ويختلف، وبعد أن خطا بالتجريب أهم خطواته، مضى دون أن تثنيه الإخفاقات إلى أولى حياة التحضر، فاخترع ما يدافع به ويصطاد، واستأنس من الحيوانات ما ينتفع به منها، وطها على النار طعامه، وبنى مأواه، وقد رأى بالارتباطات، والتعاون والتوافق، دعامات له، فنشأت تبعاً لذلك التجمعات التي شيئاً فشيئاً تطورت إلى رعوية لا تستقر بمكان، وزراعية تتمسك به، وبرغم التداخل بينهما بالرؤية بأن عزهما برابطة الدم، والعصبية والتكافل، وتفاني الفرد بالجماعة، فالتجمعات الزراعية، وإن ليس بالمطلق تُقدم المكان.
إذا لم تتأصل هذه التجمعات في وحدات سياسية (دول) تنغلق وتتهمش، ومن ثم تتآكل بقعود المفاهيم، وغياب الوعي، فتشيع الفوضى، ويحتدم الصراع، وتتوالد الانتهاكات والخروقات، ولا تغادرها الأمراض والمجاعات.
وحتى في حال تطور المجتمع إلى دولة وانكفأت على ذاتها باستقلالية غير متفاعلة ومستجيبة للتحولات وما تستدعيه المتغيرات خشية أن يوعي الانفتاح مواطنيها، مما قد يكسر الاحتكار، ويفضح المفسدين، ويفقدهم نفوذهم وامتيازاتهم إن لم يتداركوا بالإصلاح، وقبول ما تفرضه المعطيات مآلها، إن لم يكن الزوال، التخلف والانعزال.
أما الدول التابعة فتلك التي تسترخي، وتستسلم للترف، بحيث يكون انفتاحها شكلياً وتحضرها قشرياً، وتعاملها فوقياً، ويماثلها بالتبعية تلك التي ديمقراطيتها فوضوية، ووطنيتها طائفية، والاستجداء ديدنها، وهشة سياسياً، ومفككة اجتماعياً، وضائعة ثقافياً، وكلها تستهلك ولا تنتج، وتستورد ولا تصدر، وتنبهر ولا تستلهم، وتقلد ببلاده جنبتها هضم ما تأخذ.
إن الإعجاب بالدول المتبوعة، وتقدير ما حققته، والتأثر بها، والأخذ منها، والتعامل والتعاون، والحرص على توثيق العلاقات معها: مطلوب، ليس فقط لأنها تستحق ذلك بعد أن عززت مكانتها بالدساتير، وسن التشريعات والقوانين التي عينت الصلاحيات، وأدوار المؤسسات، والمجتمعات الأهلية، وفعلت التنوع الأثني والطائفي بالمساواة ونظمت العلاقات بين شتى الشرائح الاجتماعية، وحفظت حقوق الأفراد، ووعتهم بواجباتهم، فاغتنت بالمواهب والكفاءات، وتماسكت بالوعي الذي جعل من الاختلاف، والنقد دعامتين تحولان دون تفاقم الأخطاء، وتراكم الفساد، والحريات ضرورة إنسانية، والتداول والتعددية لابد منهما للشفافية والاستقرار.
وهكذا نجد أن شعوب هذه الدول في أغلبيتها ترى بالعمل متعة وعطاء، والانضباط ركيزة أساسية لكل عمل، والمرونة والانتماء، والمصلحة العامة، والتنمية المستدامة، ورواح بضائعها ومنتجاتها، وشيوع صناعاتها وثقافتها: قوة لا تضعفها أشد الأزمات، لكن السؤال المطروح: ماذا بعد؟!.
لاشك أن الدولة التي ترفع مكانتها بالوعي والثقافة، والتنمية والعلم، وكم الإنتاج ونوعه، وتغنيها بالتماثل والاختلاف، والتنوع والتعاقب: تعتبر قدوة، وتحسين العلاقات معها لاستفادة منها إذا لم يصطدم كل ذلك بالاستكبار والأنانية، وممارسة الضغوط وازدواجية المعايير محمود، لكن لعل من النادر أن مثل هذه الدولة لا تتصاعد أطماعها، فتتكبر وتتوسع، وتظلم وتميز، وتنحاز، وتتآمر، وتمعن ما وسعها بإضعاف كل من هو خارج جغرافيتها.
نخلص مما سبق إلى أن الثقافة لازمت الإنسان في كل العصور بفعله وحركته، وتفكيره وتجريبه، وفي صراعه ومهادنته، وصاحبته في قوته وضعفه، والتعاون والتنابذ، والتصالح والتنافس، وفي نجاحه وفشله، وعداواته وصداقاته، وحبه وبغضه، وخيره وشره، وقناعته وجشعه، فشكلت نتيجة لذلك قيمه ومفاهيمه، وأيدلوجياته ومواقفه، وبحسب جهده، وحماسه وتشجيعه، وسعيه ومثابرته، ومستوى استنارته، وجدِّيته بالبحث تكون مكاسبه، ولكنه مهما بلغ لا تنتهي المفارقات، والمتناقضات بحياته، فالمحافظ على الأمانة، يقابله الذي يخونها، والفظاظة يقابلها التهذيب، ومنكر الجميل يقابله المعترف به، والضعيف القوي، وما لا يأتي به الترغيب قد يأتي به الترهيب.
إنها حكمة إلهية لتسخين الحياة وتحريكها في المتقابلات، وبعث الحيوية فيها، وحين شاء - سبحانه - استحالة المثالية بالحياة أغتاها بحرية الاختيار بعدما أبان سبل الخير والشر، وما يريح ويزعج، وأنزل الأديان، وبعث الرسل لهداية الناس، ودعوتهم للإيمان، والأخلاق الحميدة، والعمل الصالح، ووهبهم عقولاً يميزون فيها حتى يعدموا الخسران، ولكنه بعد أن ترك لهم الخيار شاء اختبارهم، لأن الملائكية في الحياة البشرية خصوصية غير متاحة إلا لمن نزههم، وحفظهم من الزلل.
رغم أن الثقافة تنفرد بمفهوم، لكنه لا يحيدها، أو يعزلها، لأنها الأكثر قدرة من سواها على التطوير، والأفعل بالتأثير والتغيير، وقوى عامل بالتوجيه، وتكوين الفاعليات المادية والمعنوية إيجاباً وسلباً، قوة وضعفاً، لذلك رأى العديد من الفلاسفة، وأعلام الفكر بأنها هي التي تصنع الحضارات من أدناها إلى أعلاها (المدنية) التي يبدو أنها ليست مسؤولة عن الدولة التي بلوغها مستوى الحضارة المدنية يغريها لتتحول إمبراطوريات امبريالية تتوحش وتتوسع وتحتل وتغتصب، لأن ذلك يعود إلى نزاعات استكبارية، ومطامع بلا حدود تخلّت عن القيم، وتعرّت بالعنصرية، وفظاظة أفرغتها، من المشاعر الإنسانية.
الأمة الواعية صيغتها الثقافية ثابتة ومتغيرة، ثابتة بالحرص الشديد على لغتها، والاعتزاز بها، وعدم تشويهها بدخيل لا يرفدها وبنوع التعليم بحيث يكون وطنياً لا يختل بالدس والتضليل، والتعصب والاستلاب، والتراث بحيث لا يغيب بالإهمال والتحقير، أو يرفع إلى درجة التقديس، فيوضع موضع الاعتزاز، والاهتمام والتفعيل، وكل فعل يخضع للنقد.
والمتغير يجب أن يأخذ شكل الدعم والإضافة والاستفادة من كل معطى حديث، والتجارب والخبرات بما يتناسب مع الثوابت والقيم، ويحقق الحضور والتأثير، وينعكس على المسلكيات والتفكير، ويعمق الوعي الذي من خلاله يثبت الشعور الوطني، ويعم التسامح، والتعامل بندية، مع الآخر، ويشيع الإبداع، وتتكاثر الكفاءات.
الثقافة لا يمكن أن تنمو وتؤثر، وتتصدى للمخاطر بجهاز بيروقراطي مقل بالروتينيات، ومتبلد بالأحدية ومتعلق بالمظهرية لأن الثقافة القادرة على تفعيل محركات النهضات النوعية، وإشاعة شتى أنواع الحصانات، وأخصاب المنافع: عملية تفاعلية، وجهود فكرية وعلمية جماعية وفردية متعددة ومتنوعة تتأطر بمنظومة حرة يغذيها حقها من كل مكونات الدولة الرسمية والشعبية.