عندما كلفت بإعداد كتاب خاص عن الفنان الراحل علي الخرجي بمناسبة حفل تكريمه من قبل جريدة الجزيرة عام 1979م تقديرا لمسيرته التي تجاوزت الخمسة وثلاثين عام، أقيم له بها حفل يليق بالمناسبة، شرفه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن فهد، وأعضاء مجلس إدارة الجريدة ومنسوبيها من محررين وكتاب، وجدت نفسي وقتها أمام قامة شاملة الثقافة في كل مناحي الحياة، كشف بها القضايا وطرح لها الحلول، مما ضاعف خوفي من أن لا أكون على قدر ومقدار هذا الزخم عند هذا المبدع، الذي كان يشغل الكثير من المسؤولين في دوائرهم عند ملامسة لوحاته الكاريكاتيرية تقصيراً في إنجاز مشروع، أو تأخر تنفيذه كما يرى فيه العامة المصحح والمرشد للسلوك الخاطئ، جعل من رسوماته عشقاً تمثل في أن يبدأ القراء جريدتهم من الصفحة الأخيرة.
لكن الأمر كان عكس ما تخيلته أن يكون هذا الرجل الذي لفت أنظار القراء وتابعه المسؤولون وحقق الكثير من الشهرة والمكانة الثقافية والصحفية محلياً وعربياً وعالمياً، بتلك المشاعر الأبوية الهادئة، بروح فنان يحب الناس والمجتمع ويعشق الفن، ينجز اللوحة ويسخر قطعة الخشب أو الحجر لفكرة ما، ويطوع الخط في رسمه للشخوص، لتتحول إلى ومضات إصلاح ولفت نظر للأخطاء، قد لا يلحظها من يعمل وينتج، لقد فتح قلبه قبل البوح بكلماته، مانحا جهاز التسجيل حرية ما يلتقطه من ذكريات، ومواقف وحكايات، لا يمكن أن يتحمل وخز الزمان وطعنات التأويل فيها إلا من هو بروح هذا الإنسان الذي رحل بجسده وبقي في ذاكرتنا رمزاً ورائداً دون منازع للكاريكاتير السعودي.
الخرجي الفنان التشكيلي
لاشك أن الكثير من الجيل الحالي لا يعرف إلا القليل عن هذا الرجل، وقد لا يتذكر البعض من الجيل الجديد من قراء الصحف تلك اللوحات الكاريكاتيرية في صحفنا (الرياض) ثم (الجزيرة) التي عشقها وأحبها فأخلص لها فكانت وفية بتكريمه بجزء من حقه، وإذا كان هذا الجيل لا يتذكره فإن التقصير يتحمله أبناؤه الرسامين الشباب، والمؤسسات الثقافية وفي مقدمتها وزارة الثقافة والإعلام بأن يقام مسابقة للكاريكاتير تحمل اسمه، أو يصدر له كتاب يليق بمسيرته وريادته، أسوة بمن حظي بمثلها من المثقفين والأدباء والتشكيليين، فالكاريكاتير لا يقل بأي حال عن المقالة أو اللوحة أو المسرحية، بل يجمعهم في إشارة أو تلميحة عبر خطوط مختصرة معبرة ومؤثرة قد تكون أسرع وأبلغ من سابقاتها، وإذا عدنا للتذكير به بعد رحيله فإننا أيضا لا نعذر بقدر ما نتحمل المسئولية في التذكير به عند الحديث أو الكتابة عن الفن التشكيلي كرائد من رواده، الجانب الذي يجهله الكثير حتى في الوسط التشكيلي فللفنان الراحل علي الخرجي تجارب وإبداعات كبيرة، ذات قيمة فنية عالية المستوى تنم عن إمكانيات تنبع من موهبة مبكرة دعمها بالمشاهدات خلال تنقله في دول عدة، لتلقي الدراسة أو الزيارات، لم يحقق الكثير من الأكاديميين مثل تلك الإبداعات مع ما تلقوه من دروس التشريح وعلوم التكوين والنسب وبناء اللوحة، لقد أنجز الفنان علي الخرجي العديد من الأعمال الخاصة به والأخرى التي أخذت موقعها في مرافق ومؤسسات هامة أبرزها التي نفذت في مبنى كلية الزراعة.
إصدار الجزيرة.. التوثيق
من المؤسف أن لا نجد في ما نشر من أخبار عن وفاته شيء مما ذكر في الإصدار الذي قامت على طباعته جريدة الجزيرة، المحتوي على عناوين تشتمل على الكثير مما قاله وقيل عنه، فقد تضمن الإصدار العديد من الكلمات، والإشادات والذكريات، لأسماء لها مكانتها وله منها الكثير من العلاقات، العملية والإنسانية منها على سبيل المثال:
الدكتور عبدالرحمن الشبيلي بكلمة بعنوان (صاحب المدرسة الرائدة للكاريكاتير) وكلمة بعنوان (الفنان الكبير) بقلم الأستاذ خالد المالك، وكلمة بعنوان (الخرجي خطوط وكلمات) بقلم الأستاذ تركي السديري، وكلمة الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بقلم الأستاذ محمد بن أحمد الشدي، كما كتب الأستاذ محمد أبا حسين كلمته بعنوان (مواهب سخية العطاء وريادة جديرة بكل تكريم) وكلمة بعنوان (علي الخرجي اسم اقترن بالإبداع في الكاريكاتير) بقلم الأستاذ محمد الوعيل و(الخرجي الريادة والاستمرار) بقلم الفنان محمد الحنيفر كما شارك الفنانون بأقلامهم حيث كتب الفنان عبد الجبار اليحيى كلمة بعنوان (الخرجي وتوظيف المادة العلمية في صياغة العمل الإبداعي) وكلمة الفنان عبد الحكيم رضوي (الخرجي والأسلوب والهادف) وكلمة للفنان عبد الرحمن الس ليمان (الخرجي في الريادة التشكيلية) وكلمة (فنان المداد الشيني) للفنان سمير الدهام.
كما تضمن الإصدار نبذة عن ماهية الكاريكاتير ومعناه والكاريكاتير في الصحافة العربية مروراً بالكاريكاتير السعودي كمدرسة خاصة لها مقوماتها وقيمها التي تنبع من قيم ومبادئ الدين والمجتمع، كما تضمن الإصدار سيرة الفنان وحديث مطول عن مشواره الفني وخصوصية إبداعه ومصادر إلهامه وإشارة إلى شهادته على عصره، بما وثقه في رسوماته من مواقف وأحداث، كما تضمن الإصدار محطات في حياته، ومجموعة كبيرة من الصور والنماذج من أعماله لم تنشر في غير الإصدار.
الخرجي وخصوصية الكاريكاتير المحلي
رحل فارس الكاريكاتير السعودي تاركاً إرثاً وأجيالاً لا يمكن أن تنساه أو أن تتجاهل ريادته، رحل بعد أن أسس مدرسة ذات مواصفات خاصة تجمع بين عالمية الإبداع وخصوصية التعامل مع المجتمع، يلتقط الفكرة بكل ما فيها من صور ومشاهد الخطأ، ويعيد صياغتها بما يتناسب مع قبول القارئ ومن عني بها، تلميح دون تجريح، كشف للعيوب دون تشهير، يبتسم لمصداقيتها من لامست أخطاءه، ويشيد بها من وجد فيها الحلول، حول خصوصيته أشرنا في إصدار الجزيرة أن للفنان الراحل علي الخرجي أسلوباً وخصوصية تفرد به وميزت شخصيته الفنية، فأصبح بإمكان الناقد والباحث وحتى المتلقي معرفة صاحب العمل الذي قام به، حيث استطاع يرحمه الله أن يقف بتلك الخصوصية رسماً ومعالجة للقضايا من بين الكثير من رسامي الكاريكاتير على المستوى العربي أمثال.. الفنان مصطفى حسين من مصر، والفنان علي فرزات من سوريا، والفنان عبد الرضا كمال من الكويت، والفنان عبدالله المحرقي من البحرين، والفنان محمود كحيل من لبنان، والفنان ناجي العلي من فلسطين (يرحمه الله) وغيرهم كثير في مختلف الدول العربية, لكل فنان متمرس منهم معيناً يستخلص منه أفكاره، من الواقع الذي يعيشة، مع إضافة ما طرأ على مجتمعه من تطور وانفتاح على الجوانب الحضارية دون تخل عن الأصول.
حيث قدم الفنان علي الخرجي يرحمه الله شخصية أبي صالح بكل تفاصيلها: سعودية الولادة والنشأة و الثقافة, بالتعبير عن بساطة إنسان هذه الأرض أمانه.. وإخلاص وكرم.. و ثقافة وانتماء مطلق، وحتى الملامح الأصيلة. حيث ظهرت إبداعاته يرحمه الله بخطوط هادئة متزنة واثقة ومنسجمة، حريص، على النسب والأبعاد في كل جزء من اللوحة الكاريكاتيرية.. كما في لوحة عازف الربابة فهي لوحة بذاتها, لو نقلها الفنان الخرجي إلى قماش الرسم وأضفى عليها من خبرته اللونية القليل لأصبحت لوحة تشكليلية يتسابق عليها المقتنون، إضافة إلى التعليق المصاحب لأي رسم من رسومه، لا يحمل أي مغزى مغلف أو تأويل لغير ما يظهره, فكانت كل تلك المقومات سانداً، له جعلته يتربع على هذا الإبداع طوال 35 عاما. أما الجوانب التقنية في رسوم الفنان علي الخرجي فتظهر في متانة خطوطه..
(هذه مقتطفات من مسيرة رائد الكريكاتير السعودي علي الخرجي يمكن إضافة الكثير منها غدا في صفحة فنون جميلة لعدد الجزيرة الجمعة ومنها قصة الكريكاتير الذي كان وراء تأسيس نادي الفروسية محطات في مسيرته مصادر الهامة).
monif@hotmail.com