تهدف هذه المقالة إلى إعادة بناء التصورات والأفكار السائدة والشائعة عن العلاقة بين المجتمع كمتلقٍ والإعلام كمرسل، داخل حقل نشاط محدّد وجديد كلياً هو حقل الرموز، وفقط بهدف فحص إمكانية القيام بتحليل منهجي، يبيّن طبيعة هذا النشاط وحدود المسؤولية التي أنيطت بوسائل الإتصال، لتمكين جهات وقوى محلية ودولية من زعزعة منظومات رمزية قائمة واحلال منظومة جديدة يديلة عنها. لقد شهد حقل الرموز الوطنية National symbols نشاطاً مكثفاَ وغير مسبوق خلال احداث ما يسمى (الربيع العربي) كانت فيه وسائل الإعلام لاعباَ رئيساً، بينما بدا المجتمع كطرف مُهَيمن عليه بأكثر ما هو طرف مشارك. وخلال السنوات الأخيرة الممتدّة مابين 2003-2011 اصبحت الرموز موضوعاً مركزياً في هذا النشاط ، وإلى الدرجة التي بات فيها أمراً مألوفاً رؤية الأحداث من منظورات ذات طبيعة نمطية وجامدة، حيث ينقسم المجتمع على نفسه، وتتفاقم أشكال جديدة من التناقضات بين أفراده. وبالفعل، فقد اتضّح ان هذه الأحداث اتسمت بتفجرّ خلافات وتباينات داخل المجتمع حول الهوّية، وأن بواعث الصراع تكاد تنحصر في وجود عوامل داخلية وخارجية متشابكة، لعب الإعلام دوراً مذهلاً في تصويرها بطرق غير موضوعية، فعدا عن إنكارها لوجود أي عامل خارجي في اندلاع الاحتجاجات الشعبية، وتصوير الأمور برمتها كموضوع داخلي صرف ناجم عن الفساد والبيروقراطية وفشل التنمية والاستبداد وغياب الحياة السياسية؛ فإنها سعت بالتلازم مع هذا التوصيف إلى فرض منظور وحيد للأحداث، يسّفه وينكر وجود أي عامل خارجي، وذلك ما ساعد على تفاقم الصراع بين الجماعات المنقسمة في المجتمع، وتبلورها بين جماعتين متناقضتين سرعان ما وجدتا نفسيهما وقد انخرطتا (أو انزلقتا) في صراع عنيف، إمّا ضد الرموز الوطنية وإمّا من أجل الحفاظ عليها. وفي هذا السياق تكرّست وجهتا نظر داخل المجتمع صاغتهما وسائل الإعلام بصورة نمطية، ترى إحداهما أن الأحداث هي نتيجة تنقاضات داخلية مستعصية، بينما ترى الأخرى، أنها صادرة عن عوامل خارجية.لقد ساهم هذا التصوّر الجامد الذي كرّسته وسائل الإعلام بشكل غير موضوعي وخال من الحياد والنزاهة في تشظي أشكل الصراع داخل المجتمع، وخروجها في كثير من الحالات عن السيطرة.إن الجماعات القائدة للاحتجاج هي خليط من مواد اجتماعية متحللّة من طبقات وشرائح مختلفة، توحدّت بصورة مفاجئة من حول رموز جديدة، لا يعرف عنها المجتمع، وبشكل أخصّ الأجيال الشابة فيه أي فكرة واضحة. ومن ذلك، رفع العلم القديم، أي العلم الذي اعتمدته الدولة في حقبة الاستقلال الوطني. ويتضّح عبر اكثر من مثال، أن السجال حول العلم السابق والحالي، اتخذ طابع السجال حول الهوّية الوطنية، فبينما كانت الجماعات القائدة للاحتجاج والمنخرطة فيه، تتبارى مع الجماعات المؤيدة للنظام في الاستخدام المكثف للرموز ومنها العلم، وتضفي عليه كل مظاهر التقديس (من خلال مشاهد يظهر فيها محتجّون يلفوّن أجسادهم بالعلم أو يكفنّون قتلى التظاهرات به) كانت وسائل الإعلام المحلية والدولية، تنتج وتبثّ مواد فيلمية مكثفة يجري التركيز فيها على مشاهد يستخدم فيها العلم. لقد وجدت معظم هذه الجماعات، أن الرموز الجديدة تمّثل مصدراً من مصادر شرعيتها السياسية، وأنها بفرضها للعلم القديم تمارس أعلى شكل من الاحتجاج يمكن تخيّله. والمثير للدهشة، ان قوانين بعض البلدان المؤيدة لهذه الاحتجاجات، تركيا مثلاً، تحكم بالسجن لمدة تزيد عن 18 عاماَ على كل شخص يرفع علماَ بديلاً للعلم الوطني؟ بهذا المعنى فقط، اتخذ الصراع حول الرموز طابع السجال حول الهوّية. ولعل حادثة انزال العلم التونسي مؤخراً واستبداله بعلم تنظيم القاعدة ورفعه فوق سطح بناية جامعة، هي من بين المؤشرات المقلقة والدّالة على أن الصراع حول الرموز لن يتوقف حتى مع انجاز التغيير السياسي. وكان من المتوقع في ظروف من هذا النوع، أن ترى الجماعات المناهضة للاحتجاجات في رفع العلم القديم، برهاناً أكيداً على وجود ارتباطات خارجية. وفي الغالب- وكما بينت أحداث ما يسمى الربيع العربي- فقد بدا الصراع في بعض أوجهه صراع صور ورمزيّات.
هولندا