الثقافية - أكابر الأحمدي
من الأمور المسلم بها أن حاضرنا الثقافي يمرّ بطفرة في إنتاجه الإبداعي مما يدفعنا للتساؤل: هل صناعة الإبداع تعتمد فقط على وجود عقل مؤسس ثقافي أم على وجود تخطيط وإستراتيجية ينبغي تبنيها من قبل المؤسسات الثقافية التعليمية الاقتصادية التي تبدأ غالبًا من نقطة جوهرية تُعنى بالتحرر من ثقافة الاستبداد والشمول الفكري وتنازلات لصالح هذه الجهة أو تلك مما يدخل العملية الإبداعية وحرية الرأي والاستقلال التام في نفقٍ موجّهٍ، يؤدي بالتالي إلى الانزواء والركود العقلي والثقافي، كذلك يبرز سؤال آخر مفاده: هل هذه الأسباب تكفي لتوقف الإبداع أم أن هنالك عوائق أخرى تحول دون ذلك..؟
ولكل هذه الأسئلة استطلعنا عددًا من الآراء من قبل المهتمين.. بداية يستهل الحديث المخرج المسرحي صبحي يوسف بقوله: الواقع هو أن الإبداع في عالمنا العربي تراجع بشكل كبير، فمن ناحية تسهم العادات والتقاليد والمعتقدات منذ زمن في النزول بأسقف الإبداع لدى العقل العربي، فالمحاذير من تلك الزاوية مجتمعية كانت أو عقدية لا حصر لها ومن ناحية أخرى تعيش المؤسسات العربية في شبه عزلة عن بعضها البعض وتعمل منفردة، وبالتالي لا تلتق حلقات الاهتمام بالثقافة والفكر ببعضها.
فالمؤسسات التعليمية تتعامل مع الإبداع باعتباره ترفًا وبعضها يحرِّم وسائل الإبداع وبعضها يضعه كديكور مكمل للشكل العام.
والمؤسسات الثقافية الرسمية يرتكز معظم عملها على أشكال مهرجانية تحقق أيضًا الديكور أكثر ما تحقق المضمون أو تصل بشكل فعَّال إلى المستهدف. وقد أسهم ذلك في توريث المثقف العربي نفسه تلك الصفة «التجزر»؛ أي العيش في جزر منعزلة، فالأدباء في جزيرة والشعراء في أخرى والمسرحيون في ثالثة والسينمائيون في رابعة وهكذا، أما التنشئة فحدث ولا حرج.. فعلى سبيل المثال «في مجال المسرح» نجد المؤسسات التعليمية لا تعمد إلى إبراز الجوانب الإبداعية وصقلها، بل فقط تنتظر من الطلاب الإجادة «بمفهوم القائمين على الحفلات» في يوم الحفل الذي يرعاه المسئول مما يجعل الطلاب كارهين للعملية برمتها وخائفين من الوقوع في أخطاء يوم الحفل ويتمنون مروره على خير.
أما رؤية الأستاذة أريج الزهراني عضو مجلس إدارة نادي الباحة الأدبي فجسّدتها في قولها: التخيل هو أساس الإبداع ومع الأسف من أهم أسباب عدم الإبداع عندنا.
إننا لا نعطي عقولنا فرصة لتسرح بنا في بحور الخيال، المشكلة لا نعاني من نقص في مخزوننا الثقافي لكن ينقصنا الوعي التام بكيفية إخراج هذا المخزون وترجمته على أرض الواقع وهنالك الكثير من المبدعين الصامتين لا يشعرون بقيمة أفكارهم غالبًا ما يتوقفون عن متابعتها والإبداع يحتاج إلى الشجاعة، كما يقول جورج برنس والفضاءات الإلكترونية منحتنهم مساحة كافية ووفرت لهم تفاعلاً مباشرًا وسريعًا مع القارئ ولكن هذه الفرصة لا يحسن البعض استغلالها، أيضًا أيضًا الكتاب الورقي أصبح في نظر البعض يشكل عبئًا وثقلاً ويحجز مكان التحف في مكتبات المنازل للأسف الشديد ونظرية التعالي عند بعض المبدعين الجدد على الساحة لا يدرك أهمية أن يعرض أعماله على أشخاص آخرين ينظرون إلى العمل من زوايا مختلفة في أغلب الأحيان تؤدي إلى نقاط ورؤى قد يكون أغفلها، فيخرج لنا نتاج أدبي سيء ولم يبق أمام المثقف سوى خيارين، أما المحاربة ودفع الثمن، أو التقوقع والانحدار المعرفي والفناء الثقافي. كما أكَّد الدكتور زيد الفضيل أن الإبداع حالة متجددة، ولا يتأتى ذلك إلا بأمرين:
أحدهما يقوم على ثراء التجربة الحياتية عبر تكرار السفر والاختلاط بشرائح مختلفة من الناس، وبثقافات متعددة، وكل ذلك يتطلب متانة مسبقة في اللغة، تلك التي تمكنه من صياغة تحفته بالشكل الذي يريد، وتطوع له الحجر الصلد لينتج عنها عملاً فنيًا أصيلاً، والأمر الآخر بالقراءة الدائمة لكل جديد والتمعن في تفاصيل ما يقرأ، حتى لا يُخيل للقارئ المتأمل أنه قد أصبح أيقونة من أيقونات كتابه الذي بين يديه، فيعيش بكل حواسه في أجواء النص الذي يتابعه بعينيه ويتلوه بلسانه ويعيه بفؤاده. حين ذاك يكون قد أثرى من مخزون وجدانه وجدد في خياله المعرفي بالصورة التي تجعله متفردًا عن غيره. بغير هذين الأمرين يتوقف من وجهة نظري تجدد الإبداع، وهو ما يعكس ما نعيشه من فقر واضح وتكرار ممل لعديد من الصور الإبداعية السائدة في كثير من فقرات مشهدنا الثقافي.
وعدّ الشاعر هاني الصلوي أن المبدعين الذين يتدفقون إبداعًا مغيب إنتاجهم عن الناس وهذه هي المعضلة المشكلة في عدم فهمنا أن الإبداع غير مقصور على شخص أو زمن لذلك فإن مرتاد المكتبات بسبب من الإعلام يذهب يبحث عن تلك الأسماء نفسها ولا يبحث عن إبداع الشباب يسأل في دور النشر عن كتب النقاد والشعراء السابقين عمّن كتبوا في العقود الماضية، كما أن دور النشر نفسها تتفنن في الترويج لهؤلاء نحن لا ندعو إلى نبذ السابقين بقدر ما ندعو إلى الالتفات إلى الاتجاهات الحديثة.
وجاءت مشاركة الدكتور سلطان القحطاني بقوله: تجتاحنا طفرة في جميع المجالات، التعليمية والثقافية والاقتصادية وغيرها، وكلما وجد هذا النوع من الطفرات في العالم نهض الفكر والأدب يسايرانهما ويعالجان سلبياتهما، بالمقال والرواية والمسرحية والبرامج الإذاعية، ويختلط الحابل بالنابل في مثل هذه الظروف، فيظهر أدب جيد وآخر هزيل، ومقال جاد وآخر ردئ، ورواية من موهوب محترف ومذكرات ساذجة يحسبها الجاهلون بفن النقد رواية من كاتب تقرير يومي، وما هي برواية، وإنما هي مواقف شخصية لم يحسن سردها، وسيطبل ويزمر بعض الكاتبيّن باسم الكاتب وروعته، والعمل وجودته، وما هي إلا فترة قصيرة حتى يختفي هذا العمل الساذج من الوجود ويصبح نسيًا منسيًا، وبجانب ذلك يظهر عمل جيد يبقى على مرّ الزمن يتردد ذكره، وكلما قرأه المتلقي ازداد جماله ومعانيه، وتبوأ كاتبه مرتبة عالية من التقدير والاعجاب، وإذا أنتج عملاً آخر غير مشابه للأول تلقاه المتلقون وقبلوه قبولاً حسنًا. وفسر الكاتب مسفر الغامدي أن المسألة في تقديريه لا علاقة لها بالجينات، وإنما بنمط الحياة (الأبوي) الذي نعيشه، الذي يحفل بالنماذج العليا على الدوام، سواء كانت ماضوية لدى المحافظين، أو غربية لدى المنفتحين. نحن نعيش في مجتمع يحفل بالآباء، ولا يحفل بالأبناء.. تنزل المعرفة فيه من فوق، ولا تصعد من تحت!
ومن هنا حين ينجح عمل ما ولو عن طريق الصدفة، فإنه سرعان ما يتحول إلى (أب) لكثير من الأعمال (الأبناء) التي تأتي بعده، (وقدوة صالحة) يجب أن يُقتدى بها على الدوام. ما لم تنشأ ثقافة الفرد، الذي يجيد الالتفات إلى ذاته، أولاً وقبل كل شيء، فإننا سنظل نعاني من إعادة تدوير الأفكار والمشاريع والندوات والأسئلة.. وإلى ما لا نهاية.