ماذا يعني محو الأمية العلمية؟
هذه المقالة وما يتبعها من مقالات تناقش بعض الطرق لمحو الأمية العلمية، أو للتزود بالمعارف الأولية العلمية من خلال نظامنا التعليمي، لذلك يجب أن يتوافر لدينا رؤية واضحة المعالم للمشروع قبل بداية الحديث عن برامج تنفيذ ذلك.
أود أن أشير إلى أنني سوف أعرض لمحو الأمية العلمية ببعض الأساليب التي أرى أنها لبنة واحدة في بنيان أكبر اسميه «محو الأمية الثقافية». ومن هذه اللبنة الأولى ننطلق إلى الموضوع الأوسع أفقًا، ثم أركز على الإحاطة بالمعارف الأساسية للثقافة ذات الصلة الوثيقة بالعلم والتكنولوجيا.
سوف أناقش في هذا المقالات أسباب أهمية محو الأمية العلمية واقترح سبل تضمينه في نظامنا التعليمي.
المعارف الأساسية الثقافية
محو الأمية هو توافر المعارف الضرورية لدى كافة الناس في وقتنا الحاضر القرن الواحد والعشرين، مثال ذلك يبدأ من تعليم النشء بالصفوف الابتدائية على أهمية مادتي العلوم والرياضيات وفائدتهما في الواقع الحي، وربطها بآيات القرآن الكريم، حيث هذه الآية الكريمة تؤكد على ضرورة أن نسير في الأرض وننظر ونتأمل ونتفكر من حولنا وندرس ما حولنا من أجل اكتشاف «كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» عن طرق المنهج العلمي الدقيق: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرض فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ(
يجب أن تركز الصحف المتداولة بشكل يومي على المقالات العلمية في جميع فروع العلوم الطبيعية من الفيزياء والأحياء والخلايا الجذعية وعلوم الأحافير والفلك وغيرها.. عندها يعرف الصغار والكبار أهمية العلم وقيمته في حياة الشعوب، فهناك مقولة لأشهر علماء الفيزياء اينشتاين: (العلم من غير دين أعرج والدين من غير علم أعمى) وبهذا نحصل على علم مسبق بهذه المعارف الأساسية منذ الصغر. وهنا نقول: إن جميع المعارف صغيرها وكبيرها التي يفترض من الناس أنها متوافرة لدينا هي ما نسميه المعارف الأساسية الثقافية، وسواء قبلنا هذه الافتراضات أم لم نقبلها، نقول: إنها واقع معيش الآن.
ليسمح لي القارئ بأن أقص عليه تجربة أحد علماء الفيزياء، فقد شغل منصب مستشار علمي ومحرر مجلة مشهورة عالميًا، يقرأها الملايين من الناس، ذوي المستوى التعليمي الرفيع والثقافة العالية. فعندما كان المستشار بالمطعم وقت الغداء جالسًا مع أعضاء هيئة التحرير: طرح سؤالاً عن مصطلح «الانطباعية» وقال: هل بالإمكان استخدام هذا المصطلح دون شرح أو تفسير، أجاب الأعضاء بلا.. نظرًا لمعرفتهم بمعناه مسبقًا، ثم وجّه سؤالاً آخر عن مصطلح «التعبيرية التجريدية» هل يحتاج لتفسير؟ أجاب الجميع بنعم يحتاج إلى تفسير نظرًا لجهلهم به.
بصريح العبارة كان هناك خط فاصل واضح في عقول أعضاء التحرير بين ما هو معروف مسبقًا لدى قرائهم وما يجب تفسيره لهم.. لقد حرصت على مناقشة تلك التجربة مع جميع طبقات المجتمع من مثقفين وكتّاب وصحفيين وكل من يشارك بعملية الاتصال الجماهيري، ووجدت الجميع يشترك بنفس الخط الفاصل ذاته في العقول.
ومن الطبيعي أن هذه الحدود يمكن أن تختلف بدرجة ما من صحيفة إلى أخرى، لكن الاختلاف ليس كبيرًا جدًا.
تجربة أخرى توضح أهمية المعارف الأولية الثقافية: قام أحد الباحثين بعمل تجربة مباشرة مع طلاب خريجي ثانوي، ليبين كيف يتعلم الناس بشكل أفضل اللغة الإنجليزية من خلال تجاربهم السابقة والمعارف الجديدة؛ قدم نصين بالإنجليزية أحدهما رديء في قواعد الإنجليزية والآخر جيد القواعد.. قد يتوقع القارئ أن معظم الطلاب قد عرفوا الجيد والرديء من النص، فحدثت الصدمة بأن الغالبية لم تفرق بين النصين.
نخلص إلى أن الطلاب لا يعرفون شيئًا عن عناصر المهمة، مما جعل من العسير عليهم فهم النص الجيد من الرديء، الذي طلب منهم الباحث معرفته.
هل تتغير المعارف الأولية بتغير الزمان والمكان؟
- أقول نعم: فمن خلال الثقافة الثالثة وتغير الزمان والمكان تتراكم الخبرة والمعرفة في العلوم الطبيعية وغيرها من كافة العلوم، فالتغير من السنن الكونية، وهكذا مع مرور الزمن تلغى الحدود القومية والعرقية وتسمو الثقافة بالإنسان للتعايش مع كافة الشعوب والطبقات والملل والنحل، وكل ذلك بفضل العلم القادر على التنبؤ والتحكم.
ما هي المعارف التي يحتاجها الناس لكي يتمكنوا من المشاركة والتفاعل في مختلف الحوارات العلمية وكل ما تتناقله وسائل الإعلام؟
يجب أن نضع تعريفًا يحدد معنى ألف باء المعارف العلمية، الذي يحتاجه الناس بالفعل هو معرفة علم الكون وعلم الأحياء والمبادئ الأساسية التي يعمل بمقتضاها العلمان، من أجل غرس البذرة الأولى في المدارس والجامعات. وذلك من خلال إرشاد الطلاب بالمواقع العلمية في جميع العلوم من خلال الشبكة العنكبوتية. وهكذا تتوافر لدى الطلاب الخلفية العلمية اللازمة لفهم الثقافة وألف باء المعارف الأولية.
وهذا يقودنا إلى تعريف عام لمعنى ألف باء المعارف العلمية: «المعارف الأولية العلمية، هي الإطار المعرفي اللازم لكي يتوافر للمرء فهم كافٍ عن الكون والحياة والتقنية، بحيث يمكنه التعامل مع القضايا والحوارات التي تعرض لنا في حياتنا، سواء عبر الأخبار أو المحاضرات العلمية».
المعارف الأولية: برهان من الثقافة
هل العلم حقيقة جزء من الثقافة؟
اعتقد أن الإجابة عن السؤال رهن بما يعنيه المرء بكلمة ثقافة. إذا فهمنا الثقافة في أكمل صورها، بأنها الشبكة الاجتماعية والفيزيقية التي يعيش فيها جميع البشر، فإن العلم من دون أدني شك سيكون بعضها. وأقول: إن القدرة على فهم العالم الطبيعي والتعامل معه هي تحديدًا القسمة المميزة لنوع البشر (الهوموسابينس) عن بقية الأنواع الأخرى.
ولكن كلمة ثقافة تستخدم في جميع الأحوال بمعنى أكثر محدودية، أي بمعنى ما يمكن أن نسميه «الثقافة الرفيعة».. وهو جميع المعارف التي يحتاج إليها المرء في مجتمع ما، ليكون مقبولاً وسط جمع المثقفين. معنى هذا أن أي امرئ في القرن الواحد والعشرين، لم يسمع في حياته عن شكسبير أو موتسارت.. سوف يعدّه المجتمع غير مثقف، وطبيعي أن تصفه اللغة الدارجة بأنه «كمالة عدد».
تشكل لدي انطباع منذ سنوات هو أن العلم عكس الرواية والشعر ليس موضع ترحيب (أو فلنقل ليس موضع تقدير) داخل أوساط من يرون أنفسهم مثقفين. وأقول: إن أحد الأسباب التي استهوتني بشدة بشأن مشروع المعارف الأولية الثقافية هو الحاجة إلى العمل عن وعي ذاتي من أجل تضمين العلم جزءًا من هذه الثقافة عينها.
وأرى أن من البديهيات القول: إن تطور العلم على مدى ثلاثة قرون هو الذي صاغ المجتمع الغربي.
لذلك يبدو لي أن تضمين معرفة العلم ضمن العتاد الفكري الذي يتسلح به المثقفون في مجتمعنا حري بأن يتحقق تلقائيًا في الواقع، أو هو مسألة بغير حاجة إلى تفكير. أول سؤال يجب أن أسأله هو: هل يتأتى لقوة مهيمنة في مجتمعنا أن تتوارى في زاوية مظلمة داخل الصرح التعليمي.. سوف أعرض فيما يلي مرحلتين تاريخيتين مهمتين من التفكير في هذه المسألة، ثم أتحدث بعد ذلك عمّا يمكن أن يفيد به تعلم المعارف الأولية العلمية لكي يغدو العلم أكثر محورية في الثقافة.
binaziz2012@yahoo.com
الرياض