حين أحس علي شريعتي بالاغتراب الفلسفي.. قادته معارفه الإسلامية إلى مشروع «العودة إلى الذات».. وحينما تفجرت مشاعر الاغتراب عند إدوارد سعيد يوم أحس أنه خارج المكان «Out of Place» كما هو عنوان سيرته الذاتية أعاد اكتشاف الشرق ليس عبر «الاستشراق» ولا «الإمبريالية الثقافية».. بل عبر الشرق نفسه..عبر المعاناة الشرقية.. عبر مظالم الشرق.. مآسيه.. مشاكله وأحاسيسه الداخلية.. وتفاصيله.
لقد أرّقت حالات الاغتراب النفسي والاجتماعي الثقافة العربية واخترقت الكثير من تياراتها.. بدءاً بالتيار الإسلامي بأجنحته السلفية والصحوية والجذرية.. والتيار الليبرالي.. والإصلاحي.. وغيرها.. فشكلت ظاهرة شائعة في احتقار الناس وإملاء الخيارات الثقافية على المجتمع والوصاية عليه.. إما عبر مبررات دينية أو مبررات فلسفية وثقافية باسم حمايته من الضلال أو حمايته من التخلف والرجعية.. أو حمايته من الاستبداد والظلم.. وكلها أشكال مختلفة تتذرع مقولات مختلفة للوصول لذات الهدف: اقتسام الناس واستقطابهم تجاه المشاريع الفكرية أو الأيدلوجية.. وكأن الناس أطفالٌ لا يستطيعون الحديث عن أنفسهم وقصّرٌ لا يعرفون مصالحهم..ولا أولوياتهم..
ومع كل هذا المرض الاغترابي الشائع.. إلا أن احتراف شتيمة الناس.. أصبحت مهنةً رائجة.. كمبرر للإخفاق الثقافي والاجتماعي.. فحينما لا ينجح مشروع ثقافي..فالأولى أن يشكك أصحاب المشروع بمشروعهم ويقدموا النقد الذاتي الكافي كي يعيدوا تعريفه ليتفق مع هموم الناس وقضاياهم وقيمهم.. لا أن ينشغلوا بكيل الشتائم للناس والمجتمع و»العقل الجمعي» الذي يدعون جهله وقلة وعيه.. وعدم اهتمامه بهذا الفتح المعرفي العظيم الذي يزعمون!
«الناس» يعرفون من يهتم لأمرهم.. ويعدون منهم فقط من يهتم كما يهتمون.. كما في الأثر «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».. أما الذي يحترف شتيمة الناس والتبشير بهلاكهم.. واجترار وصف الغوغاء والهمج والرعاع..وغيرها..فهو أشدهم غوغائية..لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من قال هلك الناس فهو أهلكهم» رواه مسلم.. وفي كلا الإعرابيين والمعنيين تكون الرسالة قويةً في هذا الحديث ففي معنى «أهلكُهم» بضم الكاف أي أشدهم هلاكاً.. فالمبشر بالهلاك حسب هذا المعنى هو أشدهم وربما أولهم هلاكاً.. وفي معنى «أهلكَهم» بفتح الكاف..أي سبب هلاكهم.. فهذا التبشير بهلاك الناس..هو عامل أساسي في إيصال الناس إلى الهلاك.. وكلا المعنيين يقيم إدانة للاغتراب الذي يجيد الأحكام التعميمية على المجتمعات والناس.
وحينما تفتّح الربيع العربي.. كان على الأحزاب والمثقفين وما يسمون بالنخبة أن يتعلموا.. لا أن يكرروا صراخهم البالي في تعميم الذم على الناس بل وانتظار أن يعطيهم الناس موقع الصدارة والقيادة.. فهي ثورة على هذا الاغتراب..وثورة على النخبة الثقافية كما هي ثورة على النخبة السياسية..وثورة على النخبة الدينية.. فالناس لن تحتاج لأحد يمارس الوصاية عليها سياسياً أو ثقافياً أو دينياً.. وكان حقاً على المثقفين أن يقيموا ثورة ثقافية موازية تناسب أحلام المهتمين العرب لأجل الاعتراف بالناس..وبخياراتهم..ولقمة عيشهم.. واحترام قيمهم..
أحلام الربيع العربي..قادت أو حق لها أن تقود الفكر العربي من الانتفاض على الناس..إلى عمل ذلك لأجلهم.. ومن أفكار التميز والتمييز السلفية.. إلى الانسجام والاعتراف.. ومن العزلة والغربة الصحوية إلى الخلطة والتعايش.. ومن العزلة الشعورية وتجهيل المجتمعات حسب الفكرة الماركسية والقطبية إلى الخلطة الشعورية واحترام المجتمعات.. ومن مفردات «العقل الجمعي».. و»المجتمع المتخلف» التي توصف بها المجتمعات ليبرالياً إلى معرفة كل العقول والاستفادة منها.. ومن فرض أولويات إصلاحية على الناس إلى تبني أولويات الناس ولقمة عيشهم.. ومسكنهم..وقضاياهم..
في النهاية هي ثورة من الاغتراب.. إلى الاقتراب ؛ الاقتراب من الناس ومن خياراتهم وأنفاسهم الرطبة.. والعيش معهم دون شروط أو إملاءات.. وهنا تؤسس الثورات العربية لثورة فكرية تخلو من كل أمراض الفلول الثقافية .. أمراض الاغتراب.. والاستلاب.. والوصاية.. والإملاء.. واحتراف شتيمة الناس.. فهي ثورة من الاغتراب إلى الاقتراب.. ومن الفكر الذي يثور على الناس وضدهم إلى الفكر الذي يثور لأجلهم..
aalodah@hotmail.com
أمريكا