اختيار المبدع الصديق عبد العزيز الصقعبي لروايته الأخيرة (اليوم الأخير لبائع الحمام) عنوانًا لا يخلو من دلالة، أذكر أننا تناقشنا حول دلالة (العنوان) الذي كان متداولاً بين كتاب الرواية في الرياض، ولماذا هذا النموذج ودلالة الحمام، وسيأخذننا فضاء الرواية، والمضمون، والبناء، والشخوص إلى كشف وقراءة عمق التحولات، بلا مقارنة بطبيعة الحال بغيرها من الروايات، فالرياض العاصمة السياسية للوطن، تحوي جميع الشرائح المتنوعة، والرياض فضاء الرواية وهي بطبيعتها، فن شامل يحوي أيضًا كل الشرائح المجتمعية، ويدخل في نسيجها التاريخي والسياسي واليومي والسيرة الذاتية، والسيرة الذاتية هي الضفيرة المتكأ عليها والواضحة في هذه الرواية، فقد اختار الكاتب أن يتصاعد بنا مع الحدث والبناء والخطاب الروائي، ويمنحنا المتعة ولذة الاكتشاف، ويتجسد ذلك في سيرة الشخوص، ومعرفة التحولات بين الأجيال في عائلة (الضبادي)، ويوجد سمات مشتركة يجدها القارئ في كتابة كاتب القصة القصيرة جدًا البارع جدًا، وكاتب رواية رائحة الفحم إحدى لبنات الزخم في الجسد الروائي. سأمر على السمات المشتركة في كتابة الصديق عبد العزيز الصقعبي في نهاية سطور هذه الزاوية، إذا بقي هامش متاح، لكن من المؤكد التوضيح، أن الرواية المحلية هي في النهاية، رواية عربية من وجهة نظري على الأقل، فالرواية تكتب في الرياض أو صنعاء أو تونس أو بيروت أو في أي مدينة عربية أخرى، الفن الجميل يستعصي على التأطير، ولو حضرت سمات إنسانية وملامح، تنتمي للمكان والناس البسطاء والعيش على هامش الحياة، هذه الرياض المملوءة بأسرار الناس، تبقى مكانًا يحتضن السادة والعبيد، الفقراء والأغنياء، الناجحين والفاشلين، وتجسد حالة إنسانية أو حالات فردية ومجتمعية، وأزعم في هذا الاستطراد أني أكتب خواطري الانطباعية بعفوية، مطمئنين بأن الصديق (أبا عادل) يستوعبني، ويرفع عني الحرج أن يكتب روائي عن نتاج زميل، وصديق له يسجل خواطره، ويا ليت يا عبد العزيز تعود بنا تلك الأيام البعيدة والجميلة، حينما كنا نلتقي في البيوت والمقاهي، لنسمع نتاج بعض ونتناوله بالنقاش والحوار..
الرواية فن موازٍ للواقع، وعبد العزيز الصقعبي يغوص في لحمة هذا الواقع، ويكتب بواقعية شديدة ومدهشة، يكتب سيرة عائلة (تتراكم) أجبالاً وأجيالاً، لتشكل حياة حشد من الجنسين، أبناء وبنات وأرحام وأحفادهم، يحمل كل منهم خيطًا في هذا النسيج، همًا ودورًا، وقضية بلا أيدلوجيا واضحة وبلا خطاب صارخ، وظلت زاوية الرؤية لدى الكاتب محايدة وبمسافة واحدة من الجميع، بمعني أنه ترك للكم الهائل من الشخصيات، حرية التّشكل في هذا النسيج الكبير واقعيًا وفنيًا، فتشكلت الأحداث والمواقف تلقائية انسيابية في جسد الرواية، ومرر في تقنية كولاج عالية لمشاهد الحدث المتصاعد في الرواية، ويندر أن يعود لحالة الاسترجاع، ويكتفي بالرصد والتسجيل اليومي لسياق التحولات المدهشة. ويضع بصمته حينما ينتزع في براعة وتشخيص (النموذج) واستبطان عالمه.
كنت وما زلت، أرجو أن تتجاوز الرواية المحلية، إشكالية الخروج من عباءة ظاهرتي (الصحوة + الطفرة) وصدمة احتلال الكويت، فقد حضرت بكثافة في كثير مما قرأت من نتاج روائي حديث، قليل من نجوا من تأثير تلك الأحداث على نتاجهم، وربما وقد يكون الاستثناء روايتي الصديقين يحيى سبعي وعبد الواحد الأنصاري، وقد وقعت في نفس الفخ في رواية (المكتوب) وعشت الحدث حالة وواقعًا فعليًا، وتسجيلاً يوميًا لتفاصيلها وليس استرجاعًا، وأذكر أنها حضرت أصوات صفارة الإنذار مع صوت المذيع في (نباح) رواية الصديق عبده خال كردة فعل، وشكلت حركة بطلة النص بين السعودية - اليمن الرواية ، وفي رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) يأتي حضور السياسي هنا - شهادة على كتابة تاريخ الحدث الروائي، كاحتلال الكويت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وموت الملك خالد، وحركة عدم الانحياز، وتهاوي برجي التجارة العالمية، وقد حرص الراوي المحايد أن يكتب تاريخ عائلة: (دخيل الله الضبادي، ابن الصحراء والصمت، قيل إنه ولد في الوقت الذي كان الملك عبد العزيز متجهًا شرقًا ليتمكن بعد ذلك من دخول الأحساء بعد حملته على بعض القبائل في الصفوية وأبي دخن... ص8، فالضبادي تاجر السجاد والعباءات الرجالية (ولاحظ المهنة ودلالتها) تشخيصًا ونسيجًا فنيًا، يرفض أن يرث أحد أحفاده اسمه إلا بعد موته، وقد تشكلت سلطة دخيل الله على جيش من البشر، وستتضح الحالات والشخوص التي ستحضر في هذه القراءة المبتسرة لبناء نسيج الرواية.
الزوجة: فطيمة - وبناتها سبيكة وحسناء ولولو، وهؤلاء البنات سيتزوجن وسيكون لأزواجهن وأبنائهم وبناتهم دور في تحولات سيرة عائلة دخيل الله الضبادي.
الأولاد:
- مانع - زوجته أمينة، تكتسب من زوجها، أكبر الأبناء الطاعة والخضوع لسلطة وتقاليد الأسرة، ويتم تنامي العلاقة والمصاهرة بين عائلتها وعائلة الضبادي. وأنجبت له بائع الحمام (دخيل) وحيدًا، وخضرة المصرية وأنجبت ثلاثة أحدهم تزوج شيعية.
-عاشق- زوجته (سوير) النسيجان سيدة الأعمال الثرية، تكبره بعشر سنوات، شاركت في مسيرة قيادة السيارات، ونموذج مختلف في النسيج النسائي، وفيها نجاسة كما يصفها رب الأسرة وكبيرها دخيل الله، ويدعو ابنه بعاشق (سوير) لخروجه عن طاعته..
-الدكتور نوح- زوجته سيا الأمريكية من أصل صيني، يسكن في حي مختلط مع الأجانب، رفض يزوج ابنته الوحيدة فطيمة على اسم جدتها إلى مازن ابن شقيقه، لتنتصر رغبة أم مازن (سوير) بالنظر إلى زوجة لابنها من المجتمع الراقي، وتنتصر على سلطة ورغبة الجدة فطيمة!
ويأتي عليان ابن رزق الله الضبادي، وابن شقيق دخيل الله، وزوج ابنته الكبرى سبيكة، ليشكل هؤلاء رأس الهرم لعائلة كبيرة من أبناء وأحفاد وأبناء عم وأبناء خال، والبقية يمثلون ذلك المثلث (مثلث بثلاثة أضلاع - مثلث مختل الزوايا - ثمة زوايا حادة، وبعض الزوايا منفرجة.. ص11، ويمكن ملاحظة التباين في خطاب المجتمع النسائي والتوجهات المتنوعة، فالمرأة هي المحرك الخفي للحدث الروائي، ونستطيع أن نلمس هذا وتأثير المرأة في مسار حياة عاشق ونوح أبناء دخيل الله الضبادي، وتمردهما على الواقع التقليدي السائدة لحياة رتيبة، ويعكس هذا الاتجاه الحياتي للأخوين عيسى وبكر، أزواج بنات دخيل الله الضبادي حسناء ولولو، ويأتي تمرد وخروج سعد بن عليان العائد من أفغانستان، غاضبًا من مجلس الرجال بعد أن وصل إليه خبر، فشل خديجة بنت خاله المتشددة في إلقاء محاضرة، لتتحدث لجدتها وكل بناتها وحفيداتها إضافة إلى (سوير) النسيجان، المعنية الأولى مباشرة بالمحاضرة عن خطر السفور والتبرج، وتقرأ عليهن بعض الفتاوى ومقاطع من الكتب التي تناولت الحجاب ودعت إليه.
يقودنا الراوي إلى تلمس التنامي للحدث فنيًا، وما يحدث من تحولات ظاهرة في حالات شخوص الرواية، كحالات السفر والزوج والتعليم والتجارة والعصبية، ليذهب في تفاصيل مجتمعية موحية ومدهشة، فنشهد كيف يجيد بناء وتنامي الحدث، ويلتقط من عالم المهشمين تشخيص (عاهة) عضوية، متوارثة ومتراكمة من سيرة عائلة الضبادي وأوجاعهم، ليجعلها ضفيرة مدهشة في هذا النسيج: (من لا يعرف سعاد الابنة الثانية بعد منيرة لعمة دخيّل سبيكة، وابنة عليان، يشعر بكثير من الحزن عليها، فهي تمتلك الكثير من الجمال وإن أكتنز جسدها قليلاً، ولكن هناك بعض الثقل في حديثها وتفكيرها، عندما عرضها والدها على بعض الأطباء، قالوا: ليس بها أي عاهة عقلية، ولكن ربما ورثت بطْء التفكير وردة الفعل من إحدى قريباتها.. ص37، ونستنتج من هذا التراكم الزماني والبشري والعضوي والمكاني وفي الأسماء أيضًا، نتمكن من معرفة تراكم مرضي مجتمعي أيضًا، وتشخيص يدلل في إشارة بارعة إلى أمراض المجتمع المزمنة المتنوعة.
قراءة رواية (اليوم الأخير لبائع الحمام) ممتعة ومغرية، وستطول فروع وغصون سطور زاويتي لو استرسلت في تلمس جمالياتها، ولكوني سأعود إلى ما وعدت به في سطور بداية هذه الزاوية، وتلمس السمات المشتركة الفنية في نصوص الصديق المبدع عبد العزيز الصقعبي، فالفرح والطبل في العالم النسائي، متلازمة حاضرة ترد في نص الكاتب عبد العزيز الصقعبي، وتشعر بالراوي العليم بتفاصيل عالمه، يجوس هذه العوالم بمعرفة ومهارة. يفعل ذلك أيضًا دون أن تشعر بسياق آخر منفصل عن النص، وقدم لنا في هذه الرواية لوحة لعالم نعرفه ونعيشه أسماء ومكانًا، وبائع الحمام ب(الذات) صورة منتقاة من هذا الواقع بالتفصيل، ونموذج موجود في القرى والمدن، كحالة مجتمعية وهو ما يعنينا كمتلقيين من الرواية، فدخيل بائع الحمام (يبُصمّ) جده دخيل الله الذاهب في غيبوبة ورقة مزورة. ليرث بيت حي (الصالحية) الذين شاركت أبطال هذه الرواية، طفولة العيش في شوارعه، ويتفرد بامتلاك (البيت) بما له من دلالة الذي شهد تاريخ عائلة الضبادي: (ليشعر بالطمأنينة، ولن يخاف من سوير النسيجان ولا كافة عائلتها مهما علت منزلتهم وتوسّع نفوذهم في المجتمع والدولة.. ص 85.
كلام كثير ومكثف يحاصرني في نهاية سطوري، وأسئلة كثيرة كاشفة عن وجدان ومصائر أبطال وشخوص هذه الرواية المشوقة، نساء ورجالاً ونهاياتهم المحتومة، يمكن قراءاتها في الرواية التي تقع في 220 صفحة، رسمها الواقع وختمها الكاتب بملاحظة مهمة، أن أحداثها شبه واقعية..!
الرياض