تعلو أسوار بيوتنا الخارجية ظلالنا، وأبوابنا أكثر إحكاماً من قضبان السجون، نوافذنا التي أردنا أن تحجبنا عن الشارع حجبتنا عنه وعن الشمس والسماء معاً، وأحواشنا تتسع كل مازادت أموالنا، لكن أنفسنا تضيق كل ما تقدم العمر..
في بيوتنا، نظن أننا نحفظ للفرد خصوصيته بحجرة لا يشاركه فيها أحد، لكننا نعرف أنها مثل الزنازين الفردية، لا يملك فيها شيئاً حتى نفسه، ننسى أن نزوله فيها إقامة جبرية وليس اختياراً، لأنّ الابن أو الابنة الذي ينعم في بيت العائلة يعرف مسبقاً أنه نعيم جبري لا خيار فيه، لكن هل يعرف الآباء أن جبرية الإقامة حتى في السجون الرئاسية هي حكم قضائي بالعقاب لا خيار إنسان مستقل ؟
المسألة إذن ليست في خصوصية حجرة، بل في الحياة الشخصية التي لا تعرف كيف تعيش في بيوت كل شيء فيها عام ومنتهك، الحياة الشخصية التي لا قرار فيها، وحقوقها لا تتجاوز حقوق الأطفال، ليست حياة شخصية بل حياة اشتراكية تحيل الفرد إلى صورة مكررة عن أخ أو أخت، حياة لا تتمايز فيما بينها، لأنّ اختلافاتها مكبوتة، وتعبيرها محجوب، وهويتها مصادرة باسم تربية واحدة لا تريد التفرقة.
الحجرة الخاصة لا توفر جدول حياة خاص، لا توفر قرارات خاصة ولا شؤوناً خاصة، إنها فقط توفر انعزالاً سلبياً عاجزاً عن المبادرة لأجل نفسه، عاجز عن المشاركة لأجل غيره، الحجرة الخاصة في بيوتنا تحيل الإنسان إلى خانة في جدول كبير جداً لا يشبهه، جدول عائلي يديره أب وأم في أحسن الأحوال، وتتديره الأقدار في أحوال أكثر ضياعاً.
الحياة الشخصية لا تعيش في حجرة خاصة، بل في اختيارات مستقلة، والفردانية التي خطت نحوها المجتمعات الحديثة فبنت قوّتها وتقدمها إيماناً بالفرد المستقل، هي فردانية لا تعرفها بيوتنا، لأننا لا نربي أفراداً بل قطعاناً، لا ينقص بيوتنا الرعاية والعناية وتمويل البيت المحضن بكل ما يمكن، بل ينقصنا أن نرفع السقوف ونفتح الأبواب، ونؤمن أنّ أبناءنا وبناتنا الذين بلغوا شبابهم ليسوا بحاجة لراعِ يرفع الصوت أذا أخطأوا طريقهم، بل بحاجة الطريق نفسه ليشعروا بوجودهم.
ليست البيوت التي تتقن تغييب أبنائها تحت مظلة كبرى ببيوت، إنما هي أشبه بإصلاحيات أحداث تضرب قوانينها الصارمة على جنح لم ترتكب، الفتاة التي لاعبت دميتها في الخامسة من العمر، حتى إذا ما بلغت ثلاثينها عاشرت خيال رجل تعشقه وهي لازالت في ذات الحجرة الواحدة، هي فتاة لا يمكن أن تكون قد عاشت ربيع عمرها وصبوته، بل عاشت الحكم الأبوي بإقامة جبرية مع الأعمال الشاقة من أحلام لا تتحقق وتجارب لم تبدأ ورغبات ماتت صامتة.
البيوت التي أفسحت من أحواشها ملاحقٌ خاصة بأبنائها، قد أفسحت لهم حياة المضاف الذي لا يعرف كيف يضيف، حياة الزائر الذي لا يعيش في بيت ولا يسافر عنه، حياة الإنسان الذي تفجعه أجندته الفارغة التي يعجزه أن يملؤها، لأنه يعرف أن الذي لم يقرأ الحياة لن يعرف كيف يكتبها.
بيوتنا كبيرة وتكبر، وأعمارنا طويلة وتطول، لكنهما فقيران من الحياة، أسيران لتقاليد تتسلّط وتستبد وتقصي الأحلام وتدني الملل واليأس، البيوت التي تقوم على رعاية أبوية تقتل أبناءها بالطرق الضيقة التي تسيرهم فيها، تعطل أيامهم في زنازينها الخاصة، وتراكم ضعفهم وتدور مخاوفهم كما تعيد البلديات تصنيع مواد أولية.
افتحوا البيوت، يخرج الأبناء وتدخل الحياة، افتحوا البيوت لنعرف هل سيختارها أبناؤنا إذا انصرفوا إلى العالم، أو أنهم سيشطبون عنوانها كما لو كانت ذكرى حزينة عن سجون سرية..
lamia.swm@gmail.com
الرياض