هدأت المواجهة نسبياً بين الطرفين بعد تحرير دولة الكويت، وانتهت بشكلٍ كامل بعد مرور ثلاث سنوات على انطلاقتها الفعلية؛ إذ انشغل القصيبي بعمله الجديد سفيراً للمملكة في لندن 1992م، وتمّ اعتقالُ وإيقافُ البارزين من مشايخ الصحوة، في حين ظلّ الأتباعُ من بعدُ يتعاركون بلا راية، على أرصفة منطفئة، أو في أزقة مهجورة.
بعد سبع سنوات تقريباً خرج مشايخ الصحوة من المعتقل 1999م، وبعد خروجهم بثلاث سنوات تقريباً عاد القصيبي من لندن ليستلم حقيبة وزارة المياه والكهرباء 2003م، وكانت المملكة آنذاك تمر بوضع حرج؛ إذ كان ملفُّ الإرهاب من أخطر الملفات المفتوحة، وكانت هناك نقاشات ساخنة لا حدّ لها، حول تطوير المناهج، وعمل المرأة، والإصلاح الإداري، والحرية الإعلامية، واستقلالية القضاء، ومراجعة الخطاب الديني، ورغم ذلك كلّه لم يكن هناك احتكاك بين الطرفين، بل ربما كانت المفاجأة أنهما قد تبادلا الأدوار، فتبنى كلّ من العودة والقرني مقولات الإصلاح، وأبديا الكثير من المرونة في الآراء والفتاوى، وكشف القصيبي عن تخوّفه من عملية تطوير المناهج في هذه المرحلة التي يُدان فيها الإسلام بالإرهاب؛ كونها مرحلة معرّضة للإملاءات الخارجية، ولعمل المراكز الصهيونية!!.
خرج القصيبي من معركته مع مشايخ الصحوة بتجربة ثرّة، أفاد منها الكثير، وأعطته السنةُ التي قضاها في المنامة بعد بداية المعركة فرصةً لإعادة النظر في تفاصيلها، وحين ذهب إلى لندن توسعت دائرة المراجعة، فكتب كتابه (حياة في الإدارة)، سجّل في بعض منعطفاته تصحيحاتٍ فكريةً لبعض أعماله السابقة، بل ربما سجل فيه قواعدَ يمكن أن تكون منطلقاً لحياة جديدة.
لقد وعى القصيبي بأنّ معركته الحقيقية هي معركته في الوزارة مع التخلّف الثقافي، والتخبط الإداري، هي معركته فيها مع عقبات التنمية وعواقبها، وبدا واضحاً أنه مقتنع بأنْ ليس من المهمّ أنْ نحسم معاركنا بأنفسنا، مادام الزمنُ قادراً على حسمها بدلاً منا...؛ لذلك استعد للمرحلة الآتية بالعمل وليس بالقول، وكان من أقلّ المثقفين تصريحاً حول الملفات التي أقامت كلّ شيء فينا ولم تقعده.
مشايخ الصحوة في المقابل صاروا برامجَ عمل إصلاحية، غيروا فيها كثيراً من ملامح خطابهم، وكثيراً من منطلقاتهم أيضاً، وكانت مرحلة السجن مرحلةً خصبةً بالنسبة إليهم، راجعوا فيها كلّ ما مضى، وربما وضعوا نقطةً في آخرها، وفتحوا صفحةً جديدة، مع ذواتهم، ومع العالم كله.
فوق ذلك ربما، كان كل طرف يشعر بأنه قد أساء إلى الطرف الآخر، وأنّ عليه أن يذهب بعيداً في التكفير عن إساءته، كان القصيبي يتابع خطاب مشايخ الصحوة بعد خروجهم، وكانوا يتابعون معركته الجديدة مع المياه والكهرباء، ثم السعودة.. كانت المتابعة من الطرفين صامتة، لكنها محاطة بالكثير من الإعجاب.
حين توفي الملك فهد -رحمه الله- ذهب الشيخ عائض القرني لتعزية الأمير سلمان، وقريباً من باب القصر وجد نفسه أمام القصيبي وجهاً لوجه، هنا تحوّل إعجابهما الخفيُّ إلى علن، ووجدت رغبتهما الصادقة في التكفير عن الإساءة فرصتَها، فتعانق الخصمان اللدودان، وذابت الفتنة وقصائد الهجاء، وداعبَ القصيبي القرني بالبيت الذائع:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كلّ الظن أن لا تلاقيا
كسر هذا الموقفُ العابرُ أطواقَ الحديد، وانفتح الخطّ بين الخصوم، فكتب القرني مقالة (أو مقالتين) أشاد في أجزاء منها بالقصيبي، وفي المقابل أثنى القصيبي على كتاب (لا تحزن)، وعدّه سبباً في مداواة إحدى المقربات منه، وكان كلٌّ منهما يعينُ الآخرَ على ما يجد، فالقرني يهوّن على القصيبي ما يجده من خصومه في وزارة العمل (حتى لو كانوا من أتباعه زمنَ تألّق الصحوة)، والقصيبي يهوّن على القرني ما يجده من أتباعه الذين بادلوه الخصومة، ومن بعض المثقفين أيضاً، ومن هذا الموقف إلى ذلك كان الاثنان يتبادلان الكتب، ويقرآنها، ويعلقان عليها، وحين بلغ القرني نبأ وفاة غازي أظهر الكثير من الحزن، وأعلن ندمه على القصيدة التي هجاه بها، وراح -من حيث لا يشعر- يعدّد خمائله وجمائله.
العلاقة بين القصيبي والشيخ سلمان العودة لم تكن بحاجة إلى تذليل طويل، فالخصومة بينهما كانت أخفّ من غيرها...، زار القصيبي العودة في منزله بالرياض، وأثنى على كثير من آرائه، وأبدى إعجابَه بشاعريته، بل ربما ترنم ببيتٍ أو بيتين كان قد حفظهما من قصيدة للعودة، وفي المقابل سافر العودة إلى البحرين لزيارة القصيبي في فترة النقاهة التي قضاها في منزله بمحافظة (جسرة)، ولما لم تكن الظروف الصحية للقصيبي تسمح باللقاء، ظلّ العودة في الفندق ليلتين ينتظر السماح له بالزيارة، وأرسل إلى القصيبي يقول: «والله لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي»، وربما كان هذا الموقف من أشد المواقف تأثيراً في نفسية القصيبي (انظر: محمد رضا نصر الله، القصيبي، الشرق الأوسط).
وفي السياق نفسه كان العودة يبث في القصيبي روحَ التفاؤل خشية يأسه من خصومه في وزارة العمل، وتحوّل القصيبي -من حيث لايدري- إلى تلميذ ينهل من معين العودة في برنامجه (حجر الزاوية)، فقد كان حريصاً كل الحرص على متابعته، بل ربما كان البرنامج التلفازيَّ الأخيرَ، الذي ختم به حياته.
من العداوة المفتوحة إلى الصداقة المفتوحة، ومن خصام مستطير إلى اندماج مثير، كل ذلك حين نضجت العقول، وهدأت الأجواء، وزالت المخاوف، وغابت الأشباح.
لم يكن العودة راغب سلطة، ولم يكن القرني صدامياً، ولم يكن القصيبي عدوا لله ولرسوله، وإنما كانوا -وبقية الأطراف- طاقاتٍ من طاقات هذا الوطن الجميل، وجدت نفسها -من حيث لا تدري- مشغولةً بجعجعة لا تخلف طحنا، خسرنا بها اجتماعاً كان من الممكن أن يأخذنا إلى مستوى ذهني أجمل وأجلّ.
لن أفرد حلقة خاصة للنتائج التي يمكن أن نحصِّلَها من هذه المعركة، فالنتيجة المهمّة بالنسبة إليّ، أن المعارك الفكرية إذا خرجت عن إطار الحوار السليم، أصبحت وبالاً على الجميع، ومن خلال قراءة تفاصيل هذه المعركة يمكن أنْ نستشرفَ مستقبلَ المعارك التي تشتعل اليوم مثل النار في ساحتنا بين هذا أو ذاك، أو بين هذه الفئة وتلك.. وحتى إذا انطفأت يوماً ما، فلن يفضي انطفاؤها إلا إلى اشتعال جديد.. فأين منا العاقل الرشيد؟!.
* Alrafai16@hotmail.com
الرياض