إنما يكون تقعيد اللغات معتمدًا على ما استقري من مسموعها بأشكاله المختلفة من مشافهة أو رواية أو وجادة، ويكون التقعيد وفاق جمهرة الاستعمال، وهو المعول عليه في القياس الاستعمالي، وهو ما ينشأ عليه الطفل وهو يسمع اللغة في البيئة التي يعيش فيها فيحاكي ما سمع ثم يقيس بما أدركه من نظامها فهو يصيب أو يخطئ. ويبقى من المسموع ما لا يستعمله الجمهور فيظل في إطار اللغة ولكنه لا يقاس عليه، وهكذا كانت اللغة العربية الفصيحة المشتركة التي حاول النحاة تدوين نظامها.
لم يسمع من العرب كل ما يمكن أن تتيحه لغتهم؛ لأنهم استعملوها بقدر حاجتهم وتلبية لتواصلهم وتحقيقًا لأغراضهم، ومن هنا يكون القياس الاستعمالي الذي أسلفنا ذكره هو المعين على تلبية الحاجة إلى أن نشتق من الأفعال ما نحتاج إليه من الأوصاف والأدوات، وأنْ ننسب ونصغر ونثني ونجمع، ونصوغ جملا في التعجب والاستفهام والنفي والمدح والذم والإخبار لم تسمع من قبل، وتكون الحجة التي يحتج بها المستعملون هي (القياس)؛ إذ هم يقيسون ما لم يسمعوه على غيره مما سمعوه مطرد الاستعمال عند جمهرة أهل اللغة حتى صيغ في قاعدة، وقيل (ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم).
ليس موقف الاستعمال الجمعي واحدًا من المسموع، إذ كان معظمه ما اطرد استعمالهم له لكثرة نظائره فكان القياس عليه مطردًا (مثل اشتقاق اسم الفاعل من الثلاثي السالم: ذاهب، قادم، حاسب)، ومن هذا المسموع ما اطرد استعمالهم له وإن عاند القياس فلم يرد وفاق نظائره الكثيرة (مثل الفعل استحوذ الذي صحت عينه خلافًا للأفعال الجوف مثل: استطال، استعان، استقام، لم يقولوا: استحاذ)، وهنا يكون الاحتجاج بالسماع لمثل هذا الاستعمال المعاند للقياس، والذي جعل السماع هنا حجة هو اطراد الاستعمال؛ إذ ليس كل مسموع يخالف القياس يجعل من اللغة المشتركة فيقاس عليه.
وكما كان الاستعمال فيصلا في تقديم المسموع على المقيس كان أيضًا فيصلا في ترك المقيس (مثل الماضي من يدع ويذر، فقياسهما: ودع ووذر)؛ ولكن السماع لم يرد بهما اكتفاء بالفعل (ترك).
وليس كل ما سمع من العرب يصلح أن يقاس عليه لأنه ليس بمطرد الاستعمال، نجد ذلك في بعض آي القرآن الكريم وقراءاته وبعض الأشعار.
وكتبُ النحويين مليئة بالشواهد التي يستشهد بها على مخالفة الاستعمال الجمعيّ.
وإنما استشهد للمخالف؛ لأن الاستعمال الجمعيّ لكثرة أمثلته ليس بحاجة إلى شواهد.
ومن أجل ذلك لا يجوز أن يرفع المبتدأ والخبر بعد (إنّ الناصبة) فيقال: إنّ الرجلان ذاهبان، ولا يصح أن يحتج بقوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (63) سورة طه.
فاستعمال القرآن في الآية فصيح ولكنه ليس من اللغة المشتركة.
والذي ننتهي إليه أن السماع لا يكون أصلاً يحتج به إلا في ما اطرد استعماله عند العرب وخالف نظائره المقيسة.
وأما القياس فيكون أصلاً يحتّج به في ما لم يسمع من العرب؛ ولكنه موافق لنظائره المطردة الاستعمال مما سمع منهم.
الرياض