ومن الأمور التي تلفت النظر في المدن البريطانية الاهتمام البالغ بالفنون على المستويات جَميعا، فهناك تلحظ بوضوحٍ اللوحات التشكيلية في كلِّ مكان، وتَجد على كلِّ جزءٍ من جدار الفندق الذي تسكن فيه، أو البيت الذي تستأجر غرفةً فيه، أو المتجر الذي تقصده، هناك تبصر لوحاتٍ فنيةً تشكيليةً من أروع اللوحات وأشهرها، مُذيَّلةً بأسماء أبرز الفنانين على المستوى العالَمي.
ومن ملامح احتفائهم بالفنِّ التشكيلي ذلك المتحف الضخم الذي يتوسَّط العاصمة، وهو the Gallery (المعرض الفني) الذي يَحتاج زائره إلى ساعاتٍ طوال ليُلقي نظرةً عَجْلى على كلِّ لوحةٍ فيه، والبديع في هذا المتحف تنظيمه المتميِّز، وفكرته الاستثنائية، حيث يضمُّ عدداً كبيراً من القاعات الصغيرة، وتضمُّ كلُّ قاعةٍ مَجموعةً غنيَّةً من اللوحات التشكيلية الفريدة التي تنتمي إلى فترةٍ زمنيةٍ مُحدَّدة، بِدْءاً من القرن الثالث عشر الميلادي وحتى نِهايات القرن العشرين، مِمَّا يُمكِّن المتلقِّي من التعرُّف الدقيق على نشأة الفنِّ التشكيلي ومراحل تطوُّره، إضافةً إلى كون هذه اللوحات تسافر بك إلى تلك الأزمنة، وتُحلِّق بك في فضاءات الخيال الجميلة، وتشعر بأنك تعيش وسط تلك الحضارات القديمة، والأزمنة الغابرة بكل تفاصيلها ودقائقها، وترصد بدِقَّة التطوُّر الذي طرأ على الفنِّ خلال مروره بِهذه الدهور المتقادمة.
ومن الأمور التي لفتت انتباهي في المعرض حرصهم الشديد على هذه اللوحات التشكيلية، وكأنَّهم يعدُّونَها كنزاً من كنوز أمتهم العريقة، إلى الدرجة التي جعلوا فيها لكلِّ قاعةٍ من هذه القاعات التي قاربت خَمسين قاعة حارساً شخصيَّاً، كلُّ عمله هو مراقبة الزائر؛ لئلا يُسبِّب أيَّ نوعٍ من أنواع الضرر على لوحةٍ من لوحات القاعة المحروسة؛ ولذلك تَجده يَجول ببصره يَميناً وشِمالا، ويلحظ هذا، ويرمق ذاك بشكل مُتسارع؛ شعوراً بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وإدراكاً لقيمة هذه اللوحات، وما تُمثِّله بالنسبة لوطنه وشعبه، بل إنَّهم يَمنعون تصوير اللوحات بأيِّ شكلٍ من الأشكال؛ لاعتقادهم أنَّ التصوير يؤثِّر على جودة اللوحة عن طريق الإشعاعات التي تنبعث من آلة التصوير، وقد رأيتُ المراقب ينقضُّ على إحداهنَّ واضعاً يده على هاتفها الجوال، آمراً لَها بأن تَمتنع عن التصوير، في مشهدٍ يَجعلك تنظر إلى هذه اللوحات على أنَّها شيءٌ لا يُقدَّر بثمن.
ولا يتوقَّف اهتمامهم بالفنِّ التشكيلي عند إقامة المتاحف والمعارض وتعليق اللوحات في الممرات المنزلية والفندقية وأماكن العمل، بل يتجاوز ذلك إلى وجود متاجر مُتخصِّصة ببيع اللوحات التشكيلية، وهي منتشرةٌ بشكلٍ ملحوظٍ في المدن البريطانية، وخصوصاً في (أكسفورد)، فقد لفت انتباهي كثرة المتاجر من هذا النوع، وهناك تَجد أنواعاً وأشكالاً من اللوحات المرسومة بِخاماتٍ مُتنوِّعة، وطُرقٍ مُختلفة، وتابعةً لِمدارس واتِّجاهاتٍ عديدة، وبأحجامٍ كثيرة، ويُديرها مُتخصِّصون في هذا الشأن، وتصلهم هذه اللوحات من عِدَّة طرق؛ فهم إمَّا أن يشتروها من أصحابِها، أو يعرضونَها في المتجر بطلب من الفنَّان، على أن يكون لَهم نسبةٌ من قيمتها حين يتمُّ شراؤها.
ومن المباني التي لفتت نظري في (برايتون) قصر Royal Pavilion (رويال بافلون) الذي بني ما بين عامي 1815م و1822م ليكون في البداية بيتاً للأمير (ريجنت)، ثُمَّ تَحوَّل إلى قصرٍ صيفيٍّ لِ(جورج الرابع) الذي مرض بالنقرس، فنصحه طبيبه بالاستحمام في ماء البحر، فذهب إلى (برايتون) لقُربِها من (لندن)، ويندرج هذا القصر ضمن المباني الأكثر إذهالاً وجَمالاً في بريطانيا، والمدهش فيه بناؤه على الطراز الهندي الإسلامي، بِما يكشف عن مدى تأثير الاستعمار البريطاني للهند، ولعلَّ مَنْ أمر ببنائه أُعجب بِما رآه هناك إبَّان الاستعمار، متأثراً بذلك بِما رآه من المباني والمساجد الهندية، فأضحى هذا القصر معلماً حضاريا، ومزاراً استثنائياً مُتميِّزا، لا يُمكن لزائر (برايتون) أن يُفوِّت التجوُّل في حدائقه الخضراء التي تعجُّ بالحياة، وتُناسب أن تكون مكاناً فاتناً لتجمُّع الأصدقاء، وقد تَحوَّل هذا القصر إلى متحفٍ يضمُّ مَجموعةً مُتنوِّعةً من التحف النادرة التي تنتمي إلى أزمنةٍ مُختلفة، وقد جُعل الطابق الثاني مطعما للوجبات الخفيفة، ليكون استراحةً للمرء بعد سفرٍ ماتعٍ في أزمانٍ مُختلفة الحضارات، ومُتنوِّعة الثقافات.
ثُمَّ إنَّ هناك British Museum (المتحف البريطاني) في لندن، وهو أكبر متحف في المملكة المتحدة، وأحد أهمِّ المتاحف في تاريخ وثقافة البشر، حيث يُعدُّ أقدم المتاحف، فقد تأسَّس عام 1753م اعتماداً على مَجموعات العالِم الفيزيائي (السير هانز سلون)، واُفتتح في 15 يناير 1759م في (بلومزبري)، في نفس مكان المتحف الحالي، ويَحتوي على أكثر من 13 مليون غرض من جَميع القارات، وقد تَمَّ وضع العديد من التحف أسفل المتحف بسبب ضيق المساحة، كما يضم عدداً من الأقسام، من أهَمِّها: القسم المصري، والقسم الآشوري، والقسم اليوناني الروماني، والقسم البريطاني، وغيرها من آثار العصور الوسطى، وآثار أخرى من الشرق الأدنى، هذا بالإضافة إلى مُتعلِّقات علم السلالات البشرية، وعلم الحيوان، وعلم النبات، وعلم الجيولوجيا، وعلم المعادن.
وهناك قسمٌ للطبع والتصوير، ومعملٌ للبحث العلمي والتحاليل، بالإضافة إلى معامل الترميم والصيانة والإدارة والخدمات العامة، وقد شعرتُ بالأسى والحزن حين رأيتُ الآثار العربية والمنحوتات الإسلامية تقبع هناك في وسط هذه المدينة الأوروبية، وحينها فقط أدركتُ حقاً المقصود بالمتاجرة بالحضارات، وسرقة الثقافات، واستغلال آثار الأمم، فهناك لا يَملك المسلم العربي إلا أن يتحسَّر على أيامٍ مضت، وأزمانٍ كانت الحضارة الإسلامية والعربية في أوج حضورها. ومن العادات الإيجابية التي لَحظتها عند الشعب البريطاني حُبُّهم الشديد للقراءة، ونَهَمهم للاطِّلاع والمعرفة، وحرصهم على التثقُّف، أيَّاً كان نوع هذه الثقافة ومصدرها، فقد صادفتُ أكثر من مرَّةٍ أناساً يستثمرون أوقاتِهم في القراءة، ويقضون دقائق الانتظار برفقة الكتاب، والأعجب من ذلك أنَّ القراءة ليست مقتصرةً على عمرٍ مُعيَّن أو فئةٍ مُحدَّدة، فقد لاحظتُ أنَّ أطفالاً ومراهقين يَحملون كتباً وقصصاً في غير أوقات الدوام، ويقرؤون في مواقف انتظار الحافلات وداخلها، حتى إنَّ المكتبات هناك تعجُّ بالمرتادين، مِمَّا يدلُّ دلالةً واضحةً على اهتمامهم بالقراءة، ووعيهم بأهَميِّتها في بناء الثقافة، وتكوين الفكر. ولا يَحسبَنَّ القارئ الكريم أنني كنتُ أنظر في هذه الجولة القصيرة بعينٍ واحدة، وإذا كان ما ذكرته مُسبقاً يُمثِّل بعض المحاسن والإيجابيات لِما استطعتُ ملاحظته هناك، فإنَّ العين الأخرى قد وقفتْ على بعض السلبيات والمساوئ التي يَحمد المسلم ربَّه عزَّ وجلَّ أنه يعيش في بلدٍ عربيٍّ مسلم، فهناك تبصر التفكُّك الأسري اللافت، ولا يُمكن أن ترى مراهقين أو شباباً أو فتيات يسكنون مع والديهم إلا في القليل النادر، ولا تَجد سوى والدين عجوزين يسكنان معا، أما أولادهم فقد هجروهم منذ أن بلغوا الثامنة عشرة وربَّما قبلها، فهناك كلٌّ لاهٍ بنفسه، ومشغولٌ بلذته، ومهتمٌ بسعادته، وآخر هَمِّه التفكير بوالديه أو أبنائه أو إخوانه وأخواته.
ومن الأمور التي يشعر المرء معها بالاغتراب غياب (الثقافة الدينية) وانعدام (الروحانية) في تلك البلاد، فلا يُمكن أن تَجد أيَّ مظهرٍ من مظاهر (الخشوع) بغضِّ النظر عن نوع الديانة التي يدين بِها أولئك القوم، ولا يُمكن أن تسمع أيَّ صوتٍ من أصوات (الخضوع) التي تُشعرك بالروحانية والسلام سوى تلك الأجراس التي لا تفعل شيئاً من ذلك؛ ولذلك كُنَّا نشفق على الطلاب المبتعثين الذين يصادفهم شهر رمضان المبارك أو أيام الحج وهم في تلك الديار.
كما أن عين السخط قد رصدتْ هناك الافتقاد إلى (المعاملة الإنسانية)، وقِلَّة (الرحمة) و(الشفقة) في قلوب أولئك القوم، وعدم مراعاة (الظروف الطارئة)، وربَّما هذا راجعٌ إلى (الالتزام التام) و(الحذافيري) بالأنظمة والقوانين، فأضحى الواحد منهم وكأنه (روبوت) يقوم بفعاليات مُبرمَجة مسبقا، وهو ما أدَّى إلى طغيان الحياة المادية، وأصبح وجودك هناك مرهونا بِما تَملكه من نقود، وقيمتك بِما تنفقه منها. كما أنَّ من الأمور التي تُعكِّر صفو المسلم العربي هناك الوقاحة الأخلاقية التي تصادفك في الأماكن العامة، والمشاهد الفاضحة التي يَخجل المرء من مشاهدتِها فضلاً عن القيام بِها أمام الناس، ولذلك فإنَّ السائح المحافظ سيزيد حرجه إذا أبصر هذه المشاهد برفقة زوجته، وتعظم المصيبة حين يكون معه أطفال أو مراهقون، فإنَّ كثرة هذا النوع من المشاهد تكاد تفسد على الزائر هناك متعته في التنَزُّه، لكنها في الوقت نفسه تُشعره بعِظَم نعمة المولى عز وجل، والراحة النفسية التي يَجدها في بلده ووطنه من مُحافظةٍ على الدين والعادات والأخلاق، كما أنَّ من الأشياء التي رصدتْها عين السخط عدم اهتمامهم بالنظافة الشخصية، ويكفي أن يطَّلع المرء على نظام دورات المياه ليدرك ما أقصده تَماما. ومن ذلك عدم اهتمامه بالأكل الصحي المجهَّز في المنزل بطريقةٍ سليمةٍ صحية، واعتمادهم على الوجبات الجاهزة والمعلَّبة التي تُشعِر بالقشعريرة من مُجرَّد النظر إليها، وقد نصحني أحد الإخوة العرب الذين يعملون في أحد مَحلات التموين الغذائي بألا أشتري من هذه الأنواع؛ لأنها لا تَمُتُّ إلى النظافة والصحة بصلة.
إنَّ وجود مثل هذه السلبيات لا تَمنع من أن يُجرِّب المرء السفر، ويستمتع بالغربة، وينظر هنا وهناك في بلاد الله الواسعة، فيتجدَّد نشاطه الجسمي والفكري، ويَحصل له الاسترخاء الضروري الذي يَحتاجه كلُّ إنسان، ليعود إلى وطنه وأهله وعمله بروحٍ جديدة، ونفس مُلهمَة، إذا أجاد التصرُّف في سفره، وأحسن النظر والتأمُّل فيما يصادفه هناك من أحداثٍ وعاداتٍ وتقاليد. ويبقى بعد كلِّ ذلك الشوق إلى الوطن والأهل، ذلك الشعور الذي يستمرُّ معك منذ أول قدمٍ تطؤها في تلك الديار، تلك الأحاسيس التي تَجعلك في حيرةٍ شديدة، وفي شدٍّ وجذبٍ بين الاستمتاع بالطبيعة الخضراء والشواطئ المتلألئة وبين تذكُّر الأهل والأحبة، وخصوصا الوالدين، وأمنياتك الصادقة بأن يكونوا معك هنا في هذا المكان الفاتن الذي يَحلو فيه الاجتماع، وتتألق فيه الأحاديث، وتتميز فيه اللقاءات، وتبقى الغربة في السفر مُوقِدةً للوعة الشوق وحرارة الاشتياق، ولا يُطفئها غير تذكُّر الأهل والوطن، فقد أنشد الأول:
إِنَّ الغَرِيبَ لَهُ مَخَافَةُ سَارِقٍ
وَخُضُوعُ مَدْيونٍ وَذِلَّةُ مُوثَقِ
فَإِذَا تَذَكَّرَ أَهْلَهُ وَبِلادَهُ
فَفُؤَادُهُ كَجَنَاحِ طَيرٍ خَافِقِ