ويرمز «اللسان» في القصة المعنونة به، في مجموعة محمد الراشدي «احتضاري» إلى البيان أوالتعبير الذي تغدو الحرية شرطه الوجودي، فلا تعبير بلا حرية، ولا بيان بلا اختيار. وهذا التشارط هو علاقة تتماهى في الإنساني فالإنسان ببيانه ونطقه بقدر ما هو بحريته، وليست العبارة القديمة عن تعريف الإنسان بالنطق وأنه «حيوان ناطق» إلا تأسيساً للماهية الإنسانية في المنطق البياني الذي يغدو علامة على العقل وعلامة على وجود اجتماعي وتداولي. وقد وظَّفت القصة الحُلم لخلق عالم عجائبي مجاوز للطبيعي، ومفصح عن اللاشعور بوصفه لغة الإنسان بما هو راغب لا بما هو عارف.
لكن الحلم هنا يحدث لبطل القصة في منطقة التباس بين النوم واليقظة، فقد بدأت القصة برنين المنبه الذي أيقظه من نومه، ووقف أمام الشبَّاك المفتوح وحاول الغناء كما اعتاد ولكن لسانه خذله فقد كان متصلباً كالصخر، ثم دخل في غيبوبة، ونُقِل إلى المستشفى وأُجرِيت له جراحة، وحين أخذ يجرِّب لسانه في الصراخ، تدلَّى خارج فمه، وحاول أن يعيده إلى فمه فاستعصى، وأخذ يتحرك بغير إرادته، فينطوي إلى الخلف ويتمدد إلى الأمام ويستطيل أكثر فأكثر ويحلق بلا نهاية.. يلعق الغيم ويتحسَّس أجساد النجوم، وأخذت ألسن أخرى من جهات شتَّى تحلِّق في فضاء المدينة قريباً من لسانه، وجاء جنود يطلقون الرصاص في السماء وهطلت الدماء، لكن لسانه وحده نجا من الرصاص وبقي يرفرف فوق مدينة عاطنة بروائح الدم والأشلاء. أما نهاية القصة فتشير إلى أن لسانه قد قطع تماماً والطبيب يقول له: «لم يكن لدينا خيار آخر».
إن الصور العجائبية التي لعبها اللسان في هذه القصة هي دلالة على الرغبة، وهي رغبة لاشعورية لا تستطيع صور منطقية وطبيعية احتواءها. هكذا تَخَلخَل المنطقي والطبيعي فأصبح امتداد اللسان وجولانه الحر هما دلالة تلك الرغبة في الحرية والنشاط والجرأة. ولم تكن فجيعة قطع اللسان التي تنتهي إليها القصة سوى تأكيد لهذا الخرق للطبيعي واختبار للتدليل به: فالسؤال الذي يقفنا عليه مشهد إنسان بلا لسان هو: ماذا بقي له من الحياة؟ وكم يحتوي اللسان منها؟. إن هذه القصة كسابقاتها تعبير عن القهر الذي يتحيَّف الوجود الإنساني فينتقصه هنا في جهة حريته التعبيرية، وهو انتقاص بالغ الإضرار بالوجود الإنساني. والتعبير هكذا يندرج في دلالة البحث عن قيمة للإنسان بالتدليل على أهمية الحرية له، تلك الحرية التي يغدو التعبير ورمزية اللسان وفي أحيان القلم في القلب منها.
* * *
ويأخذ التعارض بين الذكوري والنسوي دوراً في تمثيل علاقات القهر في قصص: «خفاض» و «شوكة» و»حجارة». فختان البنات في قصة «خفاض» يجري في بيت طيني مكتنز بالرطوبة والروائح الدبقة. ويتردد أثناء وصف المشهد الدرامي للختان المؤلَّف من العجوز المختِّنة والرضيعة وأمها، إشارة الراوي إلى «الوَزَغ» المتحرك بحذر في سقف البيت. وقد كانت العجوز تنظر بازدراء إلى الأم وتذكِّرها بأنها ختنتها حين كانت في مثل سن رضيعتها هذه. هكذا اختارت القصة أن تدل بختان الأنثى وهي رضيعة على سلطة ذكورية ثقافية ترتسم رموزها في التقليدي والعُنفي والازدرائي للمرأة، ولا ينفصل البيت الطيني وعلامات القدامة عن العجوز القيِّمة على ذلك النوع من التسلُّط وحارسه الأمين. وقد أظهرت القصة تذلُّلَ الأم وبؤسها وبكاءها وصراخ الرضيعة، وخلقتْ تجاوباً مع فزع الوزغ وفراره في سقف البيت!.
أما في قصة «شوكة» فهناك امرأة تبدو في مقتبل العمر وابنها الذي ناهز البلوغ، في بيت تقليدي أقرب إلى البدائية، فهو عشة من القش تضاء بفانوس الكيروسين الشاحب بالسواد. الحدث هنا يخرق المتوقع فعلاً فالابن الفتيِّ يطلق زفرات وأنيناً مكتوماً ويتقلب في فراشه، ويتوقع القارئ أنه يعاني ما يوازي وصف القصة لشدة تألُّمه. والأم تتأمل وهي على سريرها شعلة الفانوس الضئيلة وتلتفت إلى الابن فهي «تداريه مثل الذبالة الواهنة، تخاف أن ينطفئ ويخنقها الظلام وحيدة يائسة». هنا تبدو أهمية الابن الذكر لأمه، لكن المفاجأة تحدث حين تنزل الأم لتأخذ رجل الابن وتلعق باطن قدمه لإزالة الشوكة. هذه الشوكة الصغيرة التي أقعدته وآلمته وهو الذكر تعني أن قوته التي تحتمي بها أمه ليست فيه وإنما في الثقافة التي اصطبغت بالصبغة الذكورية، وهي ثقافة تعشِّش في البدائي والتقليدي والشاحب الضوء. ولقد تجسَّد العنف الذكوري تجاه المرأة في قصة «حجارة» في حجارة مجازية. فبطل القصة هنا رجل يفكِّر وهو في الشارع بما يرجم به كبرياء امرأته من الكلمات، فامتلأ فمه بحجارة الكلمات العابسة. وذهب إلى عمله ثم خرج إلى شاطئ البحر ثم دخل إلى المسجد ليؤدي الصلاة والحجارة بين فكيه وهو يرتبها في ذهنه «ليدمي بها غرورها حين يلتقيان». نهاية القصة هي هزيمة الحجارة أي هزيمة العنف ودلالاته التسلطية الذكورية على الأنثى، تماماً كم ا هي هزيمة الشوكة في القصة السابقة على يد المرأة:
«حين رأته واقفاً تبسمت كصبح ندي.. ارتعش.. غامت عيناه.. وانسابت فوق خديه جداول صغيرة جرفت معها كل الحجارة..!».
* * *
إن محمد الراشدي في مجموعته القصصية هذه شديد الحساسية تجاه موضوعة القهر الذي يحيق بالكائن الإنساني لأسباب متنوعة وجودية واجتماعية وأخلاقية، وقد انتقى قصصه لتعكس صوراً من القهر وتعبِّر عنها. ودلالة ذلك كما رأينا تترامى إلى إنتاج دلالات فنية تحيل القهر من واقعة إلى نص، ومن وجود إلى معرفة. وهذا المغزى هو ما يرفع من القيمة الأدبية لأنه يجعلها متصلة بمدى من الوعي والفكر أبعد غوراً وأنهض بمهمة الاكتشاف للثقافة ومحاورتها ونقدها. ولهذا أقول في خاتمة هذه القراءة إننا موعودون من محمد الراشدي، كما تنيئنا مجموعته هذه، بالكثير من غرر الإبداع السردي وألوانه ولآلئه التي ستبوئه مكانة تليق بأمثاله ممن يتقدون بالموهبة ويضيؤون بشفافية روحهم الإنساني واتساع ثقافتهم.
الرياض