الفيلم الذي أثار غضبي وأثار غضبنا وأثار ردود فعل شاجبة من قبلنا نحن - المسلمين- هو فيلم «براءة المسلمين» الذي ينحو منحى كاريكاتيريا مسطحاً، يبدو هكذا وهو كذلك من الناحية الأسلوبية للإنتاج السينمائي، لكن هذا الفيلم يؤثر على جمهرة واسعة من المتلقين من غير العرب وغير المسلمين الذين يستقبلون الصورة والحدث كقضية مسلم بها حيث يتضاءل وعي التلقي في العالم بسبب عوامل كثيرة وفي المقدمة منها ثقافة الصورة وثقافة الإنترنت الواسعة والمذهلة في سهولة استقبالها. سوف يشاهدون الفيلم في الغرب ويضحكون ويندهشون من ردة فعلنا الغاضبة!
هذا الفيلم أخرجه يهودي أمريكي لم يكن اسمه معروفاً قبل هذا الفيلم ويدعى «سام باسيل» تمكن من جمع خمسة ملايين دولار من مائة متبرع يقال إن هويات بعضهم قبطية وأخرى يهودية.
إن زج الأقباط في الإنتاج إلى جانب اليهود له علاقة بما يجري في مصر من أحداث سياسية.
الفيلم يقع في مدى ساعتين من الزمن. وتم تصويره في كاليفورنيا واستغرق التصوير ثلاثة شهور.
الأمريكيون رسمياً قالوا وعلى لسان وزيرة الخارجية «هيلاري كلنتون» بأن الفيلم مقزز ولا علاقة لنا به. جاء تصريحها بعد حادث اقتحام سفارة الولايات المتحدة الأمريكية في مدينة بنغازي الليبية وقتل السفير الأمريكي وعدد من أعضاء طاقم السفارة وكذلك المظاهرات التي اجتاحت العواصم العربية والأوربية أمام السفارات الأمريكية في المنطقة والعالم.
بهذا الجانب حقق الفيلم الهدف السياسي من إنتاجه والذي ستكون له أبعادا مستقبلية غير ظاهرة للعيان الآن. وسيحقق الهدف الثاني وهو الهدف الديني!
هذا الفيلم ليس بريئا وهو ليس مجرد إنتاج فيلم سينمائي وهو لا يندرج أصلاً ضمن مفهوم السينما، فهو عمل إعلامي له أبعاد دينية وأبعاد سياسية!
ظهور الشخصيات المقدسة والنبوية على الشاشة السينمائية والتلفزيونية، هو شأن غير ممنوع في الغرب، ولكن بعض الأفلام التي صورت الأنبياء مثل السيد المسيح والنبي موسى فإنما بغطاء ديني يضفي على الشخصيات القدسية والاحترام ويصورهم في سياق التاريخ بعين الاحترام والإيجابية. وحتى الآن تم إنتاج 392 فيلما عن السيد المسيح وكلها تبحث في خصاله النبيلة. وعندما أخرج الإيطالي «بيير باولو بازوليني» فيلم «أنجيل متى» والذي قرأ فيه السيد المسيح قراءة مادية وليست روحية ونظر إليه كمصلح ومخلص اجتماعي، وعبر عن معجزته في المشي فوق الماء فإنه نظر إلى المعجزة من موقع العقيدة المادية حيث الإنسان الذي يؤمن بعقيدة ما فإنه يستطيع أن يعمل المعجزات حتى يستطيع المشي فوق الماء. فهو لم يمش حقيقة فوق الماء، ولكنه قال - حسب أنجيل متى - قال «آمن - Believe» وبالإيمان يمكنك صناعة المستحيل، وحتى تستطيع المشي فوق الماء. هذا الفيلم «أنجيل متى» أثار استياء الفاتيكان والكنائس ورفض كموقف ولكنهم لم يطالبوا بمنع العروض السينمائية، وحقق لشباك التذاكر أكثر مما حققته الأفلام الأخرى عن السيد المسيح وفق مفهوم «كل ممنوع مرغوب».
عندنا وحسب الأزهر «إن الذات الإلهية مصونة ويحذر المساس أو التعريض بها، وذوات أنبياء الله ورسله جميعاً وأمهات المؤمنين وخلفاءهم الراشدين» ولذا يحرم تصوير وعرض الأفلام عن الرسل والأنبياء وإظهارهم شخوصاً مجسمة على الشاشة السينمائية والتلفزيونية. ولذلك جاء تجسيد شخصية نبينا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام عبر ممثل نزق وذي سلوك كاريكاتيري بمشاهد مفتعلة ومرفوضة مضمونا وشكلاً مثار استيائنا وغضبنا بالطريقة التي تمت.
قبل أن نتحدث عن طبيعة الفيلم ورداءته وسخفه فنياً وتاريخياً كفيلم ملفق وسخيف، وقبل أن ننظر إلى أهدافه والأبعاد الدينية والفكرية والسياسية التي تكمن وراء إنتاجه وتوقيت عرضه، لابد من أن نتعرف على العقل المركزي الذي يقود الصورة المتحركة في العالم.
تحركت الصورة الثابتة في أجهزة بدائية على يد المخترع والعالم البلجيكي «جوزيف بلاعو - 1801 - 1883» وأجرى الإنكليزي «بيتر مارك» بحوثه في نفس الموضوع عام 1824. المخترع البلجيكي نجح في تحريك الصورة ولكنه لم يشاهدها إذ فقد بصره وهو يبحث في تحريكها ولم يتمكن من مشاهدتها عندما تحركت الصورة الثابتة وفق أبحاثه. وفي عام 1889 نجح المخترع الأمريكي «توماس أديسون» في تحريك الصورة في جهاز متطور أطلق عليه اسم «الكنتوسكوب» وكان يشاهد الصورة متفرج واحد حيث قام بتصنيع أعداد كثيرة من الجهاز كانت توضع في صالة العرض ويقف كل متفرج يشاهد الصورة المتحركة لوحده على جهاز واحد. وفي عام 1894 تم اختراع أجهزة العرض السينمائية من قبل الأخوين لومير، وجرى أول عرض سينمائي على الشاشة السينمائية عام 1895 في فرنسا.
في عام 1897 أي بعد ثلاثة أعوام فقط من اختراع فن السينما والصورة المتحركة انعقد في مدينة بال - بازل السويسرية المؤتمر التأسيسي الصهيوني الأول بقيادة هرتزل، وبحثوا أهمية استثمار الاختراع الجديد «الصورة المتحركة» لصالح إقامة ما أسموه «الوطن القومي لليهود» على أرض فلسطين، حيث أدركوا أن لهذا الفن الجديد تأثيرا سيكون كبيراً في الحياة الإنسانية وينبغي استثماره. والمؤتمرون هم من أصحاب الرساميل اليهودية التي تدارست موضوع تركز وتمركز رأس المال وضرورة فتح أسواق جديدة في منطقة الشرق الأوسط وحماية المصالح اليهودية في العالم بعد إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين وسيكون للصورة دور كبير في إقامة دولة إسرائيل وبنائها. تمثل ذلك وعبر السنوات اللاحقة في استمرار الهيمنة على المال من خلال المصارف والكازينوهات، وكذلك الهيمنة على الذهب تزامن ذلك مع توصية مؤتمر بال لاستثمار ما أسموه بالصورة المتحركة «السينما» لصالح هذه الأهداف ذات الأبعاد الاقتصادية والسياسية. وعندما تأسست أول شركة للإنتاج السينمائي على تلة شجيرات «الهولي» في ولاية «كاليفورنيا» قدمت المصارف اليهودية سلفاً مالية استثمارية لأول شركة عملاقة في مجال الإنتاج السينمائي أسسها ثلاثة من اليهود وهم «مترو - جولدين - مائير» ثم توالى تأسيس الشركات العملاقة وبدعم ومشاركة من قبل المصارف في استثمار السيولة النقدية لصالح السينما وأهدافها السياسية، فأنشأت أمريكا مدينة السينما هوليوود التي أصبحت من معالمها التاريخية والحضارية والثقافية. ومنذ ذلك التاريخ بقيت «هوليوود» وحتى الآن تحت هيمنة الاستثمارات اليهودية. ذات الشيء حصل عند ظهور التلفزيون وإطلاق الأقمار الاصطناعية ونشوء القنوات الفضائية وشبكات الإنترنت. ولليهود لجان متخصصة لا تزال تعمل وفق توصية مؤتمر بال - بازل الصهيوني عام 1897 في سويسرا في الهيمنة على ثقافة الصورة وفق عقل مركزي يحركها في شتى بقاع الأرض وفضاءات الكون.
ربما لا يعرف الكثيرون إن من وسائل الهيمنة على الصورة التي يديرها عقل مركزي صهيوني هو الهيمنة على عدد كبير من الفضائيات في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط عبر مؤسسة «كارتل» ذات طبيعة إعلانية أنشأها اليهودي العراقي الأصل «ساجي» وهو لقبه الذي ينتمي إلى الأسرة اليهودية، عائلة «الساعجي» العراقية أي العائلة التي كانت متخصصة في استيراد الساعات في العراق منذ الحقبة الملكية في بدايات تأسيس الدولة العراقية المعاصرة. وهذه الشركة الذكية جداً تمكنت من إقناع وباتفاق ذي طبيعة اقتصادية استثمارية سياسية الأبعاد، تمكنت من الاستحواذ على بنود الإعلانات لدى الشركات العملاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، الإعلانات المخصصة للتلفزة في العالم، لتقوم هي بتوزيعها واستثمارها وتنفيذها إنتاجا وتوزيعاً من خلال القنوات التلفزيونية في العالم. ومن خلالها ومن خلال دعم البرامج في القنوات التلفزيونية تمكنت هذه الشركة من الهيمنة على الكثير من الفضائيات عبر تزويدها بالإعلانات ودعم برامجها ما جعل تلك القنوات أسيرة لسياستها إذ بمجرد توقف الإعلانات ودعم البرامج تتوقف قدرة المحطة على مواصلة البث وبالمستوى الذي حققه لها رئيس وصاحب هذه الشركة اليهودي العراقي «ساجي - الساعجي»
لم يكن إنتاج فيلم «براءة المسلمين» بعيداً عن تحركات هذه اللجان وليس بعيداً عن مباركتهم لإنتاج مثل هذا الفيلم. وليس بعيداً عن مخططات العقل المركزي للصورة في العالم!
الفيلم بحد ذاته لا ينتمي إلى السينما ولا إلى صناعتها وصانعيها لا من بعيد ولا من قريب. والذين صنعوا الفيلم والذين مثلوا الأدوار والذين صوروه ليست لهم علاقة بالمهنة السينمائية. هذا شأن واضح لكل من يشاهد الفيلم. وهو فيلم مقزز وبذيء لا ينتمي لا للسينما الأمريكية ولا للسينما. وإن مخرج الفيلم ليس من هذا العالم السينمائي بل هو مقاول بناء ومنتجو الفيلم ليسوا سوى مجموعة ذات طابع مخابراتي صهيوني تم استغلال مناسبة ذكرى الحادي عشر من سبتمبر كتوقيت لرمي الفيلم في السوق السينمائية السياسية وهم يعرفون طبيعة ردة الفعل على مثل هكذا فيلم، الهدف منه الإساءة إلى شخصية الرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام لما يحتله من مكانة متألقة في وجدان المسلمين وبقية الأديان.
إن ردة الفعل الغاضبة والطبيعية بسبب حجم الإساءة لشخص الرسول الأكرم لا بد وأن تأخذ شكلا يصعب التحكم فيه والسيطرة عليه لأنها إساءة مباشرة بلغة شارع من شوارع الرذيلة في العالم، ومن الصعب استقبالها وقبولها لا إسلامياً ولا مسيحياً ولا حتى يهودياً، وهم حققوا الهدف السياسي من أهداف إنتاج هذا الفيلم المتعددة الذي قالوا إن ميزانيته خمسة ملايين دولار جمعوها من مائة تاجر صهيوني مرتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بالعقل المركزي للصورة. وعدم توفر الوثيقة لارتباط الفيلم بهذا العقل المركزي لا يعني عدم صحة هذا الاستنتاج لأن طبيعة النتائج التي أوجدتها ردة الفعل الغاضبة هي الحصيلة التي لا تقبل الشك في علاقة الفيلم بالعقل المركزي للصورة في العالم.
يقف في الصف المقابل لهذا التحرك الذي لم يكن الأول وسوف لن يكون الأخير غياب المخططات الإعلامية العربية والإسلامية التي تفككت وهي بالأساس لم تكن متماسكة وهو أمر يدعو للحيرة مثل ما يدعو للأسف.
لقد غاص الإعلام العربي في بحر «فضائي» هائج لا يعرف كيف يسبح في أعماقه وكيف يرى غرائبه وكيف يأخذ منه الحياة وكيف يغرف منه اللؤلؤ والمرجان! لم نأخذ نحن من بحر الإعلام سوى الطحالب وهو أمر مؤسف حقاً وأكثر من مؤسف، في وقت رسم اليهود فيه بمؤتمر بال عام 1897 مخططاً إعلامياً ذي رؤية تمتد لعشرات ولمئات السنين في أن يكون للإعلام عقل مركزي يهيمن على الصورة في عمليتي الإنتاج والتوزيع والنشر على أرض وفضاء العالم، فيما نحن نتصرف بردة فعل غير محسوبة لأننا لا نقرأ الواقع بعين المستقبل! لقد هيمنوا هم على الصورة وأدركوا أهميتها وقدرة تأثيرها بعد ثلاثة أعوام فقط من اختراع تحريك الصورة الثابتة! ونحن حتى اليوم نستخدم الصورة المتحركة دون أن نعرف كيف نسخرها لصالح قيم فكرية وأخرى فنية جمالية قادرة على التأثير على حس وعاطفة وعقل المتلقي. بل وأن كافة بلداننا لا تمتلك خطة واعية واضحة للإعلام ولاستثمار الصورة في بناء الحياة الإنسانية في مجتمعاتنا.
نحن اليوم نعيش في فوضى الإعلام وبشكل خاص الإعلام المرئي الأخطر على المتلقي سيكولوجياً وفيزيائياً. و»جوزيف بلاعو» البلجيكي فقد بصره بسبب بحثه في حركة الصورة ولم يشاهدها ما يؤكد العلاقة الفيزيائية بين الصورة والتلقي والطبيعة العلمية لتحريك الصورة هي قائمة أساساً على فسلجة العين. إن اليهود المهيمنين على حركة الصورة مركزياً وبعقول ذكية تعمل لصالح هدفهم القريب والبعيد والأبعد يدركون هذا التأثير الفيزيائي للصورة على المتلقي إضافة إلى التأثير السيكولوجي.
لو كان لدى العرب.. لو كان لدى المسلمين.. لو كان لدى «بعض» بلداننا العربية والإسلامية.. لو كان «لكل» بلداننا العربية والإسلامية.. لو كان «لدولة» عربية أو إسلامية «واحدة» رؤية إعلامية قائمة على العلم في كشف الحقائق الموضوعية لتمكنت من تنسيق المشاعر وبأناقة عالية تحقق الانتصار على الأفكار الهمجية والتدميرية لا أن تتحول هي إلى هياج غير محسوب النتائج في مواجهة مثل هكذا فيلم هزيل ومقزز ولا ينتمي لا للذوق ولا للحقيقة بل هو مزيف لها بشكل واضح وصارخ. نحن في وسائل إعلامنا، وبشكل خاص المرئية منها، مستوردون ومستهلكون ولسنا أصحاب عملية خلق إبداعية. ويلاحظ اليوم وبشكل واضح حجم البرامج المستوردة ومنها برامج مشتراة بكافة حقوقها الفنية والإنتاجية وهي تغزو فضائياتنا بدون إدراك لمخاطر استيراد مثل هذه البرامج التي تملأ زمن المشاهدة بحيث لم يعد ثمة متسع للبرامج الخلاقة والمدروسة العربية والكاشفة للواقع الموضوعي للحياة العربية والإسلامية بنهجها العلمي والسليم. وقد انتشرت هذه البرامج ذات السمات الغربية في كافة الفضائيات بحيث أن شراء حقوق هذه البرامج يتم بإشراف الشركات المنتجة للبرامج، وتكاد لا تخلو قناة من القنوات الفضائية العربية من شراء الحقوق الكاملة لهذه البرامج وبثها للمشاهد العربي. وفجأة يفاجأ المتلقي العربي لهذه البرامج أن هذا الغرب يأتيه بنموذج آخر من الصناعة السينمائية ومباشر الهدف يتناول بالإساءة الصارخة لشخص رسولنا الأكرم.
لا يمكن لأحد أن يحسب مثل هكذا ردة فعل على فيلم «براءة المسلمين» تتساوى مع فداحة الفعل نفسه. ولكن هل حسبنا لوسائلنا الإعلامية الفضائية، وهو مجرد مثال، أن تكون لدينا فضائيات على المستوى الفكري والفني الجمالي قادرة على الدخول في بيوت الغرب وجديرة بالمشاهدة لنقل حضارتنا الإنسانية والإسلامية ونحن نعيش في أرض بكر غير مكتشفة من الجمال والعادات والإرث والتقاليد الإنسانية وما حملته في الماضي من رؤية مستقبلية للإنسانية؟! نحن اليوم ومنذ ظهور الصورة المتحركة نعمل بخيلاء الطاووس وبذاتية وأنانية النرجس لا نرى في المرآة وعلى سطح الماء غير ذواتنا الطاووسية. لم نعرف حجم وأهمية العلاقة الجدلية بين العلم والإعلام. بين المعرفة والإعلام. إن ديننا الإسلامي ورسالة نبينا الأكرم هي رسالة للإنسانية وهي واضحة لا يجوز أن يراها هذا البلد الإسلامي بغير ما يراها البلد الإسلامي الثاني، فيما نحن وقعنا في التناقضات وفي الخرافات ونسينا الجوهر. صرنا نفسر ونطبق على أرض الواقع من خلال تفسيراتنا ورغباتنا بما أساء كثيراً لقيم الإسلام الحقيقية. وفي وقت دعتنا فيه الرسالة المحمدية الكريمة إلى العلم ذهبنا نحو الخرافات وجسدناها في فضائياتنا التي لم نعد نعرف عددها ولم نعد نعرف مدى تأثيرها على حياتنا ومستقبلنا ومستقبل المنطقة حتى إذا ما أنتج فيلم واحد بساعتين أقل ما يقال عنه أنه فيلم «تافه» تحول بفعل الإعلام إلى حادثة خلقت تأثيراً على موازين قوى سياسية عربية وعالمية. لأن هذا الفيلم ومن يقف وراءه هو ناتج عن تخطيطات وتصرفات العقل المركزي للصورة الذي تهيمن عليه لجنة كانت منبثقة عن مؤتمر بال - بازل في سويسرا عام 1897.
إن فيلم «براءة المسلمين» هو ليس مجرد فيلم تافه ومقزز ومهين فحسب. بل هو ضمن سلسلة من بالونات اختبار، إضافة إلى توقيته في الإنتاج والنشر ودس أربعة عشر دقيقة منه على الإنترنت، فلقد سبقت هذا البالون الأكثر تقدما في الاختبار بالون الرسوم الكاريكاتيرية لشخص الرسول الكريم، وسبق هذا محاولة لم يكتب لها النجاح كان مفترض أن تحصل في السويد وهو تفريد أوراق القرآن الكريم على لوحات مع ظهور وانتشار الفن التركيبي، لتوليف أوراق القرآن الكريم مع صور خليعة كان قد كلف بتنفيذها رسام عربي في فترة انتشار الفن التركيبي «الكولاج» إلا أن المحاولة تم إحباطها ولم يكتب لها النجاح! فيأتي هذا الفيلم ذي الطبيعة الكاريكاتيرية غير بعيد عن نهج البالونات السابقة. وإذا كان هذا الفيلم «براءة المسلمين» قد أنتج بهذا المبلغ الذي لا يشكل شيئا يذكر قياساً بحجم ميزانيات الأفلام في أمريكا فإن محاولات قادمة سوف تنفذ وستكون محسوبة بشكل دقيق. وربما سوف تأخذ أشكالا غير مباشرة وغير مثيرة كما حصل في هذا الفيلم الذي أتت فيه الإساءات بشكل مباشر ولا يليق حتى بتصوير شخصية عادية، فكيف بتجاوزه على شخص الرسول الكريم الذي يحتل مكانة نورانية صافية في وجدان وقلوب ليس المسلمين فحسب بل في وجدان وقلوب الإنسانية.
عندما تم إنتاج فيلم «الوصايا العشر» عن اليهود والنبي موسى والذي أخرجه الأمريكي «سيسيل بي دي ميل» كانت ميزانيته هي أعلى ميزانية في مجال الإنتاج السينمائي ذلك الحين، ولم يكن الفيلم أمينا في نقل التاريخ، بل كانت فيه الكثير من الحقائق المتخيلة لما يخدم الهدف الديني اليهودي الذي أنتج من أجله. وكان الفيلم مقبولا وشوهد من قبل كل الناس بانتماءاتهم إلى كل الأديان ولم يعترض عليه أحد فأصبحت الأحداث الواردة في ذلك الفيلم حقائق يهودية أصبحت مقرة دينيا فيما هي محض مخيلة سينمائية. ومن هذه القدرة الفنية التي تملكها صناعة السينما في الغرب وفي أمريكا بالذات فقد يصار إلى إنتاج فيلم عن الإسلام والمسلمين بذات القدرة التظليلية ولكن سلبياً ويتم توزيعه في كل صالات السينما ومؤسسات التلفزة التي غزت العالم عبر الفضاء.
إن فيلم «براءة المسلمين» الفيلم الذي لا يمكن القول عنه سوى عملية استفزاز مقرفة للمشاعر سوف لن يستقبله جمهور الغرب بذات الرفض الذي استقبلناه نحن وبشكل خاص أحفاد الرسول الأكرم، بل سوف ينظرون إليه كفيلم كوميدي يثير الضحك عندهم، ولا يصح أن ينتابنا الشعور بأن ما قالته السيدة كلنتون وزيرة خارجية الولايات المتحدة والتي وصفت الفيلم بالمقزز إن يكون هذا الرأي هو رأي المتلقي العادي في أمريكا والغرب، فهذا رأي النخبة السياسية والنخبة الثقافية الواعية وما قالته عن الفيلم هو رأي سياسي حكيم وسليم في رفضها لصيغة الفيلم، لكن سذاجة المتلقي في الغرب الذي بات شخصية مصنوعة صنعتها الصورة المتحركة ووسائل الإعلام والفضائيات التي غزت العالم سوف تقف مدهوشة إزاء رفضنا ربما، وسوف لن نعطى الحق في الشكل الذي اتخذته ردة الفعل بسبب غياب الوعي الفكري والوعي الجمالي عند المتلقي في الغرب ونظرته لحرية التعبير بعيداً عن القراءة الواعية للعمليات السياسية والاقتصادية والدينية وصراع وتلاقح الحضارات.
نعم، هذا الفيلم ليس النهاية، ومن يعتقد أن التجربة لن تتكرر فهو واهم، بل إن التجربة سوف تأخذ أبعاداً أوسع وهي ليست نزوة إنتاج سينمائية أو فكرة إنتاجية عابرة إنما هي مرتبطة بالعقل المركزي للصورة.
الحل، في مواجهة الإعلام الذي يستهدفنا لأكثر من سبب سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي هو أن نزن أنفسنا بميزان الوعي وننظر بجدية وانتباه إلى أهمية وخطورة الإعلام وطرائق استثماره لما يؤمن وجودنا لأنه الأخطر منذ أن تحركت الصورة الثابتة فعرفوا هم أهميتها وتأثيرها ليس على المستوى السيكولوجي بل أيضا على المستوى الفيزائي للمتلقي. إذا لم ندرك هذه الحقيقة فإن وجودنا برمته مهدد وسيكون سهل التهديم عبر أخطر وسيلة وأداة من أدوات التعبير والتأثير.
نحن اليوم أمام ترقب ثان، يتمثل في سعة انتشار الصورة المتمثلة بقنوات على ال «On line» وسوف لن تكون في فضائنا ألف فضائية كما هي الآن، بل سوف يبلغ عدد هذه القنوات الفضائية التي لا تمر عبر الأقمار الاصطناعية بملايين القنوات لأنها ستكون رخيصة وسهلة وفي متناول اليد، ومن خلالها سوف لن نستقبل فيلماً واحداً مسيئاً للإسلام والمسلمين، بل سوف نتلقى برامج كثيرة وخطيرة لأن استثمار مثل هذا النوع من القنوات الجديدة الآتية سوف يكون في متناول العقل المركزي للصورة. يومها سوف لن نتمكن من المواجهة حيث نجد أنفسنا وحيدين مثل شخص استيقظ فجأة من نومته فشاهد ملايين المخلوقات الآتية من كواكب أخرى تسير بشكل آلي وتطلق الموجات الكهرومغناطيسية فيسحب خنجره من تحت المخدة لمواجهتها!
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا
sununu@ziggo.nl