يظن البعض أن المجلات المتخصصة في اللغة والأدب والدين والاجتماع باللغة العربية قاصرة - على بلادنا العربية، لأنها تخاطب المجتمع العربي بصفة خاصة - نعم... هو الغالب على مجلاتنا العربية كما هو في (المجلة العربية) و(مجلة اللغة العربية) و(المعرفة) في وطننا الغالي، ومجلة (الهلال)، (والثقافة) في مصر، وغير ذلك كثير في سائر الدول العربية عامة.
***
لكن الذي يلفت النظر، ويجعلنا نتوقف طويلاً مبهورين بمثل هذه الأعمال الصحفية والمجلات المتخصصة هو ما يصدر باللغة العربية في بعض الدول الإسلامية الأخرى.. فلقد سعدت بحق وإعجاب بما أهداه لي بعض الأصدقاء من تركيا من مجلات متخصصة في الموضوعات الدينية، والأدبية، واللغوية، والقضايا العصرية الحديثة مع مجموعة كبيرة من المؤلفات المتخصصة.
***
لم أستطع الفكاك من إعجابي بهذه الأعداد التي أهديت إلي من مجلة (حراء) التي تصدر في تركيا منذ ثمانية أعوام، مرة كل شهرين وبلغة عربية بليغة، وصاحب امتيازها الأستاذ مصطفى طلعت قاطبرجي أغلو، ورئيس تحريرها الأستاذ هانىء رسلان ومعهم كوكبة من الإعلاميين المتخصصين، والذي يشدك إليها ما تقدمه هذه المجلة من قضايا عصرية في كل صورها، وتسودها أيضاً دراسات ومقالات عن الإسلام وعظمته دينياً، وثقافياً، وحضارياً، وعلمياً، تجعلنا لا نتركها إلا بعد الخلاص منها، وكأنهم اختاروا اسم (حراء) تشرفاً بما كان لغار حراء من شرف نزول الوحي على نبينا ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما احتواه القرآن الكريم من عظيم العلم والمعرفة والأدب، وما يتميز به من الخلود والتقديس.
***
قرأت في العدد التاسع والعشرين موضوعاً شيقاً بحق عن (البعد الدرامي في القصص القرآني) ومنه (يتبوأ الوحي في ثقافة الأمة الإسلامية مكان الصدارة، حتى إنه ليمثل السمة المميزة لهذه الثقافة، إلى درجة أنه يشكل هويتها التي لا تنفك عنها، هذا لا ريب عائد إلى كون الثقافة الإسلامية إلهية المصدر، وانطلاقاً من ذلك فقد توجه علماء الإسلام إلى خدمة الوحي - كتاباً وسنة - ووضعوا مناهج دقيقة للتعامل معه تمكنهم من إثباته وتفسيره، وفهمه، فنشأ علم أصول الرواية لإثبات ما يحتاج إثباتاً من الوحي، كما نشأ علم أصول الفقه لفهم الوحي وتفسيره قرآناً وسنة).
***
وموضوع متخصص الفكر والأسلوب في العدد الثلاثين عن أنماط التعامل مع القرآن (القرآن في الأصل مصدر على وزن فعلان بالضم، كـ(الغفران) و(الشكران) و(الثكلان)، تقول: قرأته قراءة وقراءة وقرآناً، بمعنى واحد، أي تلوته تلاوة، وقد ورد استعمال القرآن بهذا المعنى المصدري في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (18سورة القيامة) أي قراءته.
وقد روعي في تسميته (قرآناً) كونه متلواً بالألسن، كما روعي في تسمتيه (كتاباً) كونه مدناً بالأقلام، فكلتا التسميتين شيء بالمعنى الواقع عليه، وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أي يجب حفظه في الصدور والسطور جميعاً.
وبهذه العناية المزدوجة التي أوجدها الله في نفوس الأمة المسلمة اقتداءاً بنبيها محمد - صلى الله عليه وسلم - بقي القرآن محفوظاً في حرز حريز، ولا ينبغي أن يكون القرآن الكريم غير ذلك، لأنه أولاً: كتاب الله تعالى الذي تكفل هو سبحانه بحفظه وليس كتاب بشر، ثانياً: لأنه معين لا ينضب، وخزانة للحق، وفي تناول القضايا الاجتماعية نجد أن الإسلام هو الأعظم تناولاً بأذكى سبيل لتلك القضايا في كل زمان سالف أو حاضر، يقول كاتب المقال في العدد الحادي والثلاثين: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكلف الناس بالدين كله مرة واحدة، بل بدأ بالأهم فالمهم، وتدرج معهم في تفصيل العقائد والأحكام طوال فترة البعثة على أساس ترتيب الأولويات، فاعتمد على تثبيت العقيدة أولاً، ثم تدرج معهم إلى بيان القيم الدينية والأحكام العامة التي نزلت على الأنبياء السابقين).
***
وفي العدد نفسه تطرق إلى موضوع لغوي عبقري (سلطة الكلمة وقوتها) فيقول: (إن الكلمة مخلوق من مخلوقاته تعالى، بها ترجم قدرته المطلقة، وبها وصف أسماءه التي تجلى بها على الوجود، ولذلك فإن إدراك حقيقة الكلمة، هو إدراك لهذه القدرة المطلقة، فلقد شاءت إرادته تعالى أن تكون الكلمة وسيلة إنطاق المخلوقات، بما في ذلك الذات الموظفة للكلمة).
***
وفي العدد الثاني والثلاثين يتحدث أحد الكتاب عن العلم، والأخلاق وأثرهما في بناء الإنسان حديثاً علمياً صادقاً مفسراً أبعاد ذلك (لا سعادة لأمة الإسلام إلا بتحقيق حقائق الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا، أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإلا فلا عدالة قطعاً، ولا أمان مطلقاً، إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقاً بيدي الكاذبين والمرائين).
ويتحدث أحد كتاب هذه المجلة عن قضية عصرية هامة هي ثقافة الحوار مع الآخر لدى الشباب، وهي ذات أهمية بالنسبة لأجيالنا المعاصرة - فيقول: (إن الشباب المكلف بالتأهيل في عملية الحوار الحضاري لا يمكن تخليصه من عقدة الدونية والمؤامرة باتجاه الآخر، إلا إذا هيأنا له شعوراً متعالياً بالشخصية الدينية والمعرفية والحضارية من خلال محيطه الداخلي، الحوار مبدأ راق لا يكاد يرفضه عقل سليم، وهو خطوة أولى نحو التعرف على الذات، وإزالة سوء الفهم داخل الدائرة الواحدة (الذين يشتركون في ثقافة وحضارة واحدة)، وهو المدخل (الإنساني) للاقتراب من الدوائر الخارجية.
ويواصل القول: (إن مقاربة رؤية حوار الشباب مع الآخر، تحتاج صياغة رؤية إسلامية اجتهادية ناضجة، تؤسس لنمط من الحوار يقوم على إرادة واجتهاد، قوة وأخلاق.. حوار يقوم على خدمة الإنسان المستخلف في الأرض تحت القيم المتعالية لا فوقها، ليكون هذا الأخير مفتوحاً على التواصي الاجتهادي بالحق والصبر، وبذلك تقارب الرؤية منظوراً حوارياً أخلاقياً في إطار الواجب أخلاقياً، الممكن تحققاً، لكن إلى أي حد يملك شبابنا أدوات وآليات الحوار الحضاري زمن العولمة ونظريات الصدام الحضاري)؟!
***
وهذا العدد الثالث والثلاثون من هذه المجلة العملاقة يتناول الجديد من الأفكار والمهم من القضايا منها (من تجليات مفهوم القراءة في القرآن الكريم)، تناول ذلك الأمر بفكر علمي متخصص (القراءة ينبوع العطاء وينبوع كل المكاسب، ومكسب القراءة المباشر هو العلم والمعرفة، العلم بالوحي وبالكون وبالإنسان، وبهذه العلوم يعبد الله ويوحد، فمعرفة الله - جلا وعلا - هي رأس المعارف والعلوم، وبها تكون الشهادة على الناس، وبها يتحقق العمران، وبها تزكو الحياة وتستقيم).
***
وتعجبني هذه الحقيقة الذي ذكرها بحق أهمية القراءة ودورها الفاعل في نهضة الأمم وتطورها ورقي الشعوب وتميزها، مما ينفع الناس، ومما لا تقوم الحياة إلا به، من خلال حسن استثمار ثروات الكون والانتفاع بها وفق قانون التسخير.
وخلاصة القول، فبالقراءة تزكو الحياة، وتنمو الكفاءات والقدرات، يقول جودت سعيد في مقالته الواعية: (إن حل مشكلات الإنسانية، وإخراج الإنسان من الفساد والسفك لا يتم إلا بالتسخير الحق لقدرة القراءة.
إن التسخير الحق لقدرة القراءة الواعية، يجعل الإنسان يطير بجناح القراءة ويتغلب على المشكلات. إن إنساناً أدرك كيف بدأ خلقه وكيف وصل إلى ما وصل إليه، وتجاوز ما تجاوز، سيعلم كيف سيصل إلى ما لم يصل إليه بعد، وكيف يتجاوز العقبات التي خلفها).
***
إن الأمم الغربية تقود العالم اليوم بالقراءة - لأن الأمم القارئة هي القائدة - وتشد إليها أنظار كل البشر ولو كانت هناك قراءة واعية للأمة الإسلامية لأعطتها قوة روحية وأخرى مادية، فيظهر صلاحها في البر والبحر، فتتحول إليها أنظار البشر ينشدونها، وتستقطب الناس من كل حدب وصوب، وتقود البشرية إلى شاطىء الأمان؟! لكن الأمة الإسلامية لم تسخر قدرة القراءة التسخير الحق، فبدل أن تصنع من قراءة القرآن حضارة، صنعت من قراءتها الخاطئة طريقاً للتواكل، والجهل، والفرقة، والتنازع والتشاكس.
***
هذه جولة سريعة في بعض أعداد إحدى المجلات التي تصدر في تركيا - الوطن الإسلامي الكبير وكيف حظيت القضايا الإسلامية، والأدبية، والاجتماعية فيها باهتمام ودراسة واعية متخصصة - مما يؤكد أن البلاد الإسلامية عامرة - بحمد الله - بكل صور الثقافة الإسلامية - ناطقة - بحمد الله - باللغة العربية.
وهناك الكثير من المؤلفات والمراجع المتخصصة صدرت في هذا البلد الإسلامي الكبير.. لنبارك هذه الظاهرة، ولنكن على صلة دائمة بها.. نرويها ونستقي بالجيد الكثير فيها.
- الرياض