عفواً! هل رأيتَ اسمي.. ربما سقط سهواً كغيره من الأسماء المغضوب عليها.. لا بأس، ربما أجده في البورد الخلفي... آه نعم.. ها هو.. كعهدي به متأخراً، حرف الياء يضيعني كشجرة سيسبان رأيته قادماً نحو البورد الخلفي (الأستاذ خالد يحيى) وجهه والنظارة الطبية توأمان صاح بي:
- أستاذ يسن ألم يشرب القحط من عينيك بعد ؟
- هل أنت على لائحة الفئة الضالة وضيعة النسب معدومة الواسطة؟
حييته بحرارة وتمنيتُ ألا نُنقل معاً لمكان واحد.. قلت منفعلاً
- يا ذا العيون الأربع، أبي من اكتشف بلاد الواق الواق.
سألني بوقاحة:
- أين قذفوا بك هذه المرة أيها الأستاذ المهمل كالطابية؟
يا تلك المدينة التي أشْتَمُّها بدمي، لها عبق البهار، وطعم الخبز. أم درمان تلفظ الداؤودي كالنواة فيوليها غباره غاضباً، إطاراته لم تعتد الأسفلت القاسي، ومصابيحه تخاف ذوي الياقات البيض والصافرات المجنونة. إنه يعشق التراب ووحشة الصحراء.
الأسطى حسنين لا ينسى أبداً أن يغازل أزقة (أم فرنيب) بصوت بوريه المعروف.. جاري بالمقعد أرخى طاقيته إلى الأمام وهو يخبرني بأن الأسطى حسنين يرسل شفرة حب بالبوري إلى (حسينة) عند وصوله تخوم القرية فتفهمها حسينة بغريزة الأنثى تستعد حواسها العطشى لماء الحياة فتستوي كقطعة خبز طازجة على فرن من الطلح أو الشاف.
لم يخبرني جاري بالمقعد بأن الأسطى حسنين لم يُنجب، رغم أنه تزوج بأربع غير (حسينة)، أخبرني بذلك مدير المدرسة لاحقاً بعد أن أضاف بحزن مصطنع:
الكل تدافع صوب الخروج، وأنا على مقعدي تنتابني حالة الانطباع الأولى فأفر ببصري عبر النافذة.. يلاحقني انطباعي كالمجنون، هناك رأيتها حلية النافذة المتسخة بالزيت والغبار لم تمنع عني ملامحها البريئة.. حلوة صغيرة، أحالت الشمس لونها القمحي فصار أشبه بلون العسل، ينحسر فستانها رخيص الثمن عن ساقيها حتى يكشف ملابسها الداخلية، صغيرة هي لا تهتم، أسفل صدرها لم تطاله الشمس فكشفت عن سر لونها القمحي المخبأ داخلها، متسخة القدمين، جلست تمد ساقيها أمامها، تتكئ بظهرها على حائطٍ لم يتبقَ من ظله إلا مقدار ما يحجب الشمس عن وجهها، وقد حفرتْ حفرة أمامها ملأتها بحصى معدود، تقذف بالحصاة إلى أعلى وإلى أن ترتد الحصاة إلى أصابعها مرة أخرى تكون قد أخرجت ما في الحفرة بسرعة عجيبة وكومته أمامها، ومرة تلو الأخرى تدخله بعدد معلوم، وربما سقطت الحصاة فتلتقطها ساخطة مغتاظة وهي تواصل لعبها وتحريك ساقيها.
لم يكن الوصول إلى مبنى المدرسة أمراً عسيراً؛ فهي والوحدة الصحية كل ما يعرفه مثقفو القرية عن عهد عبود. قناعاتي بأن مهنة التدريس تهشمتْ أمام إصرار أبي على أن المعلمين وحدهم من يرثون الأنبياء، أبي معلم جغرافيا حاذق ولكنه لا يعرف أين هي (أم فرنيب)!.
واقفاً يمد بطنه المثقلة ويجاهد قميصه أن يستر أسفلها دون طائل، مدير المدرسة يدعي بأن (الكرش) دليل صحة! خشيتُ أن تفقأ إحدى أزرارِهِ عيني و(كرش) مدير المدرسة تعابيرها أصدق من وجهه؛ فهي ترقص عندما يتحدث، وتهرول أمامه عندما يمشي، وتقرقع عندما يجوع.
كل الفصول تسافر لتعود، و(أم فرنيب) تمارس الثبات عنوة، أرض من ملح وصبر.. جاءها أغسطس متعب القدمين، خائر القوى ومضى حزيناً، عند المقيل (الصلحي) يفرغ زجاجة الكلونيا على جلبابه الأبيض، فتسيل خطوط الزهر الأزرق تُدنس بياضها.. ليس ككل الأيام يوم الجُمعة يخرج حاج (الصلحي) أنيقاً كعريس يزف إلى صبية، يحلق ذقنه، يزيل نجاسته، ويتعطر بماء الكلونيا، ويسابق الإمام إلى الجامع.. لم يفوّت صلاة الجمعة في حياته، يفعل كما كان أبوه، وكل شيوخ القرية.. كَسِب لقب (حاج) بحكم سنواته الستين؛ فهو لم يرَ الكعبة في حياته، ولكنه يعرفها كباطن كفه، يراها داخل الداؤودي وعلى مرايا دكان (عيسى) الحلاق، وينوي زيارتها عقب كل (دَرَتْ) (5)، ولكنه أغسطس يأتي هذه الأعوام متعب القدمين، منهوك القوى لتضم الأرض فخذيها من جديد بانتظار أغسطس أكثر فحولة.
في ذلك الصباح جاءتني مستورة تحمل الشاي بعد أن راجعت صيغة الخبر الصاعق الذي ستلقى به إلي وفشلت فألقت به بدون مقدمات.
زبيدة طالبتك بالصف السابع يا أستاذ ستزف إلى صديق والدها حاج الخضر الداؤودي يغادر أزقة «أم فرنيب» المتربة يصدر صوتا حزيناً فيرتفع رأس حسينة من وراء السور تودع زوجها سائق الباص كنخلة ارتوت أرضها ولم تطرح ثمرها ويغادر المعزون دار حاج الصلحي ومن نافذته يطل قلب مُدمى فقد لتوه عنقود عنب كان يأمل في قطفه وأنا أعود إلى أم درمان أحمل كل أهل أم فرنيب على ذاكرتي المتعبة.