-1-
يربط كثيرٌ من المتابعين بين النهضة الماليزية والفكر الاقتصادي الذي تولى المسؤولية السياسية فيها بداية من عام 1981م، ويعرّف عددٌ منهم (مهاتير محمّد) بأنه رجلٌ اقتصادي من الطراز الأول، أسهم برؤيته الاقتصادية (هكذا) في نهوض ماليزيا، وحصولها على مراكز متقدِّمة في القارة الآسيوية، وفي العالم كلِّه، بعد سنواتها العجاف وتاريخها المتلفّع بالظلمة!
هذا الربط نمّط حالة التلقي العربي - في السنوات الأخيرة - للنهضة الماليزية، حتى أصبحنا نرى دولاً عربية غارقة في المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية من مثل: (مصر) و(اليمن) و(السودان) تضيّف مهاتير محمد في (مؤتمرات) و(ملتقيات) وربما (لقاءات خاصة)، بنيّة الإفادة من رؤيته الاقتصادية في إحداث نهضة عربية على الطريقة الماليزية، وصرنا نسمع في عدد من الدول العربية الغارقة إلى أذنيها في الضياع بخطط عملية لصناعة (ماليزيا عربية)!!
(هكذا)...، بسطحية مدهشة يقدّر بعضُ المسؤولين والراصدين في عالمنا العربي أنّ فكرةً أو حزمةً من الأفكار الاقتصادية قادرةٌ وحدها على النهوض ببلد مثقل بالخلل، يعيث فيه تخلفٌ فكري وثقافي، يسحبُ ذيل ثوبه الطويل وظله الممعر على كلّ شيء، بداية من الوضع السياسي داخلياً وخارجياً، ومروراً بالوضع الاقتصادي، وانتهاء بالوضع الاجتماعي المُهدّد بانهيار القيم، وانهيار الأحلام أيضاً..!
إنّ هذا الربط القاصر يخالف جملة القواعد الرئيسة في تطور المجتمعات، تلك التي تؤكِّد أنّ تطوّرَ مجتمعٍ ما مرتبطٌ بتطوّره الفكري والثقافي، كارتباط الشيء بظلّه، وربما أكثر!
وهو - إلى ما سبق - اختزالٌ ظالم لشخصية مهاتير محمّد، تلك الشخصية التي أسهمت في وضع الخطوط الأولى لنهضة ماليزيا قبل أن تصل إلى منصب رئاسة الوزراء بمدة تربو على خمسة عشر عاماً...!
-2-
من يتتبع تاريخ ماليزيا / الأرض فيما قبل الاستقلال يجده مترعاً بالحروب الدامية، والجهل المطبق، والبدائية البشعة، والفقر العنيف، وحسبها من الألم الممضّ مرورها بقنوات استعمارية طويلة، لم تستطع التحرّر منها إلا في منتصف القرن الماضي، حين حظيت بأول شكل من أشكال الاستقلال.
ظلت ماليزيا بعد الاستقلال تراوح بين قدميها أكثر من سبعة عشر عاماً (1963 - 1980م)، لا تملك معرفة جيدة بحاضرها، ولا رؤية واضحة لمستقبلها، ولا تعرف (وربما لا تملك أيضاً) الطاقةَ القادرةَ على التفكير في النهضة، لكنها في هذه السنوات الجامدة حظيت بحراك فكري وثقافي على يد مجموعة من شبابها المخلصين، أفضى – مع الأيام - بفئات عريضة من المجتمع الماليزي إلى مطلب عام، يمكن أن نعبِّر عنه هنا بـ (إرادة التغيير)!
كان مهاتير محمّد من أبرز أولئك الشباب الذين مهدّوا لهذا الحراك ثم اشتغلوا من خلاله، وكان جوهر حراكه نقد السياق الثقافي المترهّل، الذي يرفض الاندماجَ مع الآخر، ويواجه المستثنى ويحمل عليه، ويتخوّف من الجديد ويتصدى له، ويتقاعس عن العمل ويتأفف منه، ويتأخر عن تطوير الذات والرقيّ بها، ولقد جمع مهاتير رؤيته الناقدة لهذه الثقافة السائدة وأصدرها في كتاب بعنوان: «معضلة الملايو»: 1970م.
أحدث هذا الكتاب الكثيرَ من الجدل في ذلك الوقت، ولم يُحسم أمره إلا بمنعه من التداول رسمياً، وتوجيه التهمة إلى مهاتير محمد بالإساءة إلى الحزب، والتمرّد على قيم المجتمع! لكنّ هذا كله لم يمنع مهاتير ولا الشباب الذين حملوا معه الهواجس والمسؤوليات من أن يواصلوا مشروعهم الثقافي، مع حرصهم على التوازن والعقلانية في طرحه وتسويقه (عادل الجوجري: مهاتير محمّد النمر الآسيوي، 2008م).
وكما هي العادة انتصر الزمنُ للحقيقة، فجلس مهاتير محمّد عام 1981م على كرسي رئيس الوزراء، بعد أن أقنع أعضاء الحزب والجماهير التواقة للنهضة بمشروعه الواضح، وكان جلوسه على هذا الكرسي نقطة الانطلاقة الفعلية لنهضة كبيرة، نقلت ماليزيا من ظلمات الهامش إلى أنوار المتن!
لم ترتبط هذه الانطلاقة بمعطى طبيعي - كما هو الشأن في منطقة الخليج -، ولا بمعطى سياسي أو اقتصادي، وإنما كان ارتباطها - ابتداء - بالمعطى الثقافي، الذي دشّنه مهاتير محمّد بكتابه الصادم، ثم انطلق منه - بعد رئاسة الوزراء - في إرساء فكر النهضة ورسم خططها.
-3-
بنى مهاتير خطته الأولى لنهضة ماليزيا على ثلاثة أسس (ثقافية) رئيسة، يمكن أن نتمثّلها في الآتي:
أولاً: التعددية: فقد آمن مهاتير - في مرحلة مبكّرة - أن حالة الصدام المستمرة بين الأعراق الثلاثة في ماليزيا (الملايو - الصينيين - الهنود) هي العقبة الأكبر في تحقيق النهضة؛ لذلك سعى مبكراً إلى معالجتها بطريقتين عمليتين:
أولاهما: الوقوف في وجه هذا الصدام الناتج عن التعدّد، ومواجهته في التعليم والإعلام ومؤسسات الدولة الكبرى، وفرض حالة حقوقية تربط حقوق الفرد وواجباته بانتمائه الوطني وليس بانتمائه العرقي.
وثانيتهما: استثمار التعدّد العرقي في ملفّ النهضة، وجعله أحد المقوِّمات الرئيسة للنمو الاقتصادي، وقد صرّح مهاتير محمّد بأنه قد استغلّ الملايو في إقامة علاقات ثقافية واقتصادية مع العالم الإسلامي وتحديداً دول الخليج، في حين استغلّ الصينيون والهنود في الانفتاح الاقتصادي على الصين (في مجالات الصناعة) وعلى شبه القارة الهندية (في مجالات الزراعة) (عبدالملك الجنيدي: مقالة استثمار التعددية)، واستطاع بذلك أن ينقلَ المجتمعَ الماليزي من حالة «التعدّد» إلى حالة من «التعدّدية» (وسأعود لهذه الجزئية في مقالة لاحقة بإذن الله).
ثانياً: إصلاح نظام التعليم: فقد كان مهاتير محمّد مؤمنا بأن التعليم أساس لثلاث حالات مهمّة تحتاجها النهضة، هي: الأمن، والمعرفة، والرفاهية. وخصّص لإصلاح نظام التعليم أكثر من ربع الدخل القومي لبلاده، ثم وضع أسساً مهمّة لصناعة علاقة إيجابية بين ثلاث بيئات، هي: البيئة التعليمية (العام والجامعي)، وبيئة العمل (التي تؤسس مزاياها المادية والمعنوية على مقدار ما حصّله الماليزي من مادة علمية أو خبرة مهارية في مشواره العلمي أو التدريبي)، والبيئة المفتوحة /الاجتماعية (التي تعتمد في ممايزتها بين أفراد المجتمع على أساس مخزونهم المعرفي وإنتاجهم الوظيفي).
ثالثا: الدمج الواعي بين المحافظة والانفتاح: وربما كان هذا الدمج سمة من أهمِّ سمات الحداثة التي عاشتها ماليزيا في العقود الثلاثة الماضية. إنّ العقلية المنفتحة التي انطلق منها مهاتير محمّد لم تدفعه إلى تنحية المبادئ الإسلامية ابتداء، ولا إلى الثورة المفتوحة على قيم المجتمع وأعرافه وتقاليده (كما في حالات أخرى خاسرة)!
وفي المقابل لم يمنعه اعتزازه بدينه، ولا محافظته على قيم مجتمعه من التواصل مع الآخر، فقد انفتح ثقافياً وسياسياً واقتصادياً على دول الشرق والغرب؛ فأفاد في مجال التعليم من بريطانيا وألمانيا، وأفاد في ثقافة العمل من اليابان والصين، وكان حفياً بأي شكل من أشكال التواصل مع العالم كلّه.
وجه مهاتير هذه الأسس الثلاثة لإصلاح السياق الثقافي؛ إيماناً منه بأنه المنطلق الوحيد لنهضة رائدة (لا تكذب أهلها)؛ لذلك نجح، وما زالوا يكذبون!!
@alrafai
- الرياض