العلاقة بين الحركة الثقافية والأدبية خاصة والمؤسسات الرسمية علاقة معقدة من الناحية المعرفية والإداريّة معًا. والكتابة عنها أمر شائك لاختلاف طبيعة الممارستين. ولا يشفع لكل منها لأن يتماها مع الآخر أو يتقارب معه: أن كان في ذاته مليئا بالإرشادات والتعليمات؛ إذ إنَّ «فكرة» النظام في كل منهما مباين لـ»فكرة» النظام الآخر. ويمكن أن نقول: إنه إما أن يقيده وإما أن يفككه، وفي كلا الحالتين فالعلاقة غير محايدة.
لذلك ذهب عدد من المثقفين والأدباء حتى من الذين اشتغلوا بالإدارة والسياسة وتقلدوا حقائب وزارية مهمة، إلى التشكيك في قيمة المؤسسات حين ترعى الثقافة وتشرف عليها.. وأذكر أن معالي د. غازي القصيبي رحمه الله في محاضرته «ثقافة الثقافة» التي ألقاها في مركز الملك فهد الثقافي بالرياض عام 1425هـ تعجب من وجود مؤسسة ترعى الثقافة، وصرح بأنه «لا يعلق آمالاً على وجود مؤسسة حكومية تعنى بالثقافة». ومع تقديري لتلك الآراء فإني أختلف معها، ليس لأنني الآن رئيس لمجلس إدارة مؤسسة ثقافية، لكن لأن هذا الفهم من قبلهم لم يحاول أن يستحضر طبيعة الوجود الحضاري الذي راكم تجربته، وحقق قدرًا من المكاسب على صعيد الاجتماع والخدمات والمؤسسات، وانتهى إلى تكوين مفهوم الدولة الحديثة. التي نعم فيها الأفراد بكثير من الحقوق والمكاسب التي لم تتحقق على مر التاريخ المعروف.
إن طبيعة العمل الثقافي (والأدبي بصفة أخص) تقوم على نبض الذّات وحساسيتها والحركة الدائبة والتفاعل الإنساني المباشر مع الواقع والحاجات. وتلك الحركة الدائبة التي تتوسل التعبير المباشر والمتعدد بتعدد الذوات المتلقية والمنتجة والمتفاعلة من شأنها «الفوضى»، والفوضى هنا هي: الحركة التي تندفع إلى كل اتجاه. قد تبدو من خلال النماذج المفردة منتظمة وفي إيقاع تصاعدي أو تنازلي لكنها على المسرح الواسع للتجربة الواحدة يظهر فيها التعدد والتنوع، فما يكون واحدًا هناك وله انسجامه يكون في التجربة الثانية للمبدع نفسه مختلفًا أو مختلطًا أو مفككًا. فكيف يكون ذلك على مستوى التجارب والأفكار جميعا والحركة في جهاتها الشتَى..
ذلك النشاط العظيم قد يكون مصدر أدب رائع، وفلسفة عظيمة، ورؤى باذخة، وأمثولات عابرة للثقافات والجغرافيا تُروى وتتناقل، ولكنه لا يصلح أن يكون منتجا لحضارة ولا صانعًا لتنمية ولا قائدًا لوجهة لأنه حركة بلا بوصلة وبلا اختيار ينحاز لممكن من بين الممكنات، ومن ثمَّ لا يمكن أن يكون مصدر استقرار أو رفاه. ولا يمكن لهذه الحركة الإبداعية- الثقافية النشطة أن تنتج حضارة إلا بالانتقال من مرحلة «الفوضى» إلى مرحلة «الحرية» وفرق هائل بين المرحلتين وبين المصطلحين...
الفوضى مدمرة للتاريخ والكيان المؤتلف الذي له خياراته ووجهته؛ لأنها في أيسر الأمور حركة متشظية لا أولويات فيها ولا اتجاه ولا بوصلة: تشبه النشاط المدمر لذاته كما يحصل في أمراض المناعة حين تفتك الخلايا ببعضها. والسرطان ليس بأكثر من نشاط مجنون غير منضو تحت نظام النشاط البيولوجي ولذلك يكون قتلا للوجود الذي ينتجه.. وفي التجربة الشعبية حين يأتي المطر وهو عطية السماء بإذن الله يخرج المزارعون «يشعِّبون(1) للماء»؛ يحتاجون إلى أن ينظموا تدفقه إلى مزارعهم في أخاديد تحفظه وتحفظ سبلهم، وتجنب مكتسباتهم خصوبة الحياة فيه.. وكذلك هو الحراك الثقافي والإبداعي يحتاج إلى أن ينتقل من حالة «الفوضي» الفرديّة إلى حالة الوعي بالآخر/الشريك الحضاري: مجتمعًا وقيمًا وتاريخًا ومنجزاتٍ ومكتسباتٍ، هذه الحالة هي «الحرية» التي تتكون ضمن نظام وبواسطته. وتلك هي الوظيفة الأهم في وجهة نظري التي تسوغ لنشوء المؤسسات سواء منها الحكومية أو المجتمعيّة؛ إنها مأسسة الإبداع والثقافة، ولا يعني هذا فرض الوصاية عليها ولكن أعني ترهينها من حالة «الفوضى» إلى حالة «الحرية». فهي تقنن هذا النشاط ضمن انتظامات يُسَهِّل ما يمكن أن أصطلح عليه بــ»التعاضي»(2) معه من قبل الشركاء الحضاريين في المجتمع الواحد والكيان المشترك، فتتسرب معطياته الجمالية والفنية والرؤيوية شيئًا فشيئًا إلى الجسد الاجتماعي ليكون جزءًا معتبرًا من التجربة الحضارية الناجزة. كما توفر على المجتمع فرصة الاتصال بالتجارب الثقافية والإبداعية والتفاعل معها عن كثب، وبذلك تثري الحضارة ذاتها بهذه الخصوبة دون أن تتعرض للفوضى الحمقاء، وللكلام بقية......
***
* رئيس مجلس إدارة نادي أبها الأدبي..
(1) يشعبون: يحفرون أخاديد صغيرة ليتحول إليها الماء ويجري فيها..
(2) تحول العلاقة بين الحركة الأدبية والثقافية ومنتجاتهما والكيان الحضاري والاجتماعي إلى علاقة تشبه علاقة الجسد بأعضائه الحية..
- أبها