يمتلك المصطلح القدرة على الإغواء، فعندما يوصف شخص أنه نزيه، يفهم من ذلك أن كل ما يبدر منه هو بعيد عن السرقة او الفساد أو الخيانة أو الغدر.
صفة النزاهة من الصفات الحميدة و المطلوبة، سواء على المستوى الواسع (الاجتماعي) أو (الوطني)، أم على مستوى ضيق كالعائلي مثلا، و لكن مفهوم نزيه يجب أن يخضع لتعريف جماعي كي يصبح مصطلحا، كما أن هذا المفهوم يعطي انطباعا و كأن النزيه مطلي بطلاء خاص من رأسه الى اخمص قدمية اسمه النزاهة، و هذا الطلاء ذو لون زاه محبب لدى الجميع يخول الشخص أن يكون قائدا لقومه أو (أمينا) على مقدراتهم. و لكن ماذا لو أن صاحبا النزيه سرق خلسة دون علم أحد ؟ هل سيسقط عنه ثوب النزاهة ؟
تجري في عالمنا اليوم حرب ضروس للتلاعب بالتسميات و المفاهيم لطمس الحقيقة و اخفاء الرذيلة، و الذي يقود ذلك هو الإعلام الأصفر (النزيه )،الذي يوصف بحق أنه السلطة الرابعة، باعتباره يأتي تسلسلا بعد السلطة التنفيذية و التشريعية و القضائية، اذا لم يكن أولها، لأن الترويج الإعلامي غير النزيه أشد فتكا من السموم و الحروب.
كي تكون النزاهة مصطلحا، أي متفقا عليها، يجب أن تخضع لتعريف جماعي و آلية تطبيق جماعية. كيف ذلك ؟ بالإمكان أن يشغل المكان المطلوب له النزاهة ليس شخصا واحدا، بل مجموعة أشخاص يراقبون بعضهم بعضا. كما بالإمكان أن تكون مجموعة أخرى تراقب عمل المجموعة الأولى و لها حق الاطلاع على مسار العمل بتقارير رسمية مكتوبة كي يتسنى لها و للرأي العام كله أن يراقب عمل تلك الهيئات، و هذا النوع من التفاعل الاجتماعي يسمى (الشفافية).
اذا محاربة الفساد يتطلب عمل جماعي و ليس قرار فرديا مجردا، و هو أول شروط مأسسة الدولة وصولا فيما بعد الى ما يسمى (الديمقراطية ) . و العمل الجماعي كي يكون ممأسسا لا بد أن يكون مكتوبا و مقرا بشكل جماعي أي (دستوريا)، فالدستور ينظم العمل الجماعي و يمأسسه، كما أن العمل الجماعي نفسه يثري الدستور، حيث التعديلات و التطوير و الإضافات و الحذف و المقارنات و المزاوجة بين دساتير مختلفة تاريخيا أو جغرافيا أو كليهما، كل ذلك هو عمل جماعي يغني الدستور الذي يؤسس للرقي الاجتماعي.
لا زال من يقول أن الدستور مخالف للدين! لأن الدين يحتوي الشرائع، و هي الكفيلة عوضا عن الدستور بتنظيم الحياة الاجتماعية.
القول أن الدستور وضعي و الشرائع إلهية و بالتالي فهو مخالف للدين هو الاغواء بعينه, فليس كل ما هو وضعي يخالف الشريعة، أي عندما نقر جماعيا بأن يوم العمل من ثمان ساعات و الاجازة السنوية ثلاثين يوم للموظفين و العمال و مسئولي الأمن و الدولة, هل في ذلك ما يخالف الشريعة ؟ و هل يمكن التخيل أن نصا كهذا يمكن أن يكون نصا دينيا ؟ الدين يسمو عن نصوص تفصيلية من هذا النوع، فهو توجيه للبناء و الازدهار و ليس للمحدودية و الانغلاق. ثم أن الهدف من تفسير النص الديني هو تسيير الحياة و العلاقات الجمعية، فكيف يمكن للتفسير أن يعلو على النص و يكفر كل ما عداه ؟
في جميع الأديان لا يوجد نص اصطلاحي، أي متفق من الجميع على تفسيره، فالنصوص الدينية ترسم الخطوط العامة للسلوك و العمل و العبادة و الانتاج و توزيع الثروة، أي أولويات انشاء دولة (حضارة) و القضاء على التمزق القبلي العشائري، الذي يعيق بناء مجتمع (مدني) ينمو و يزدهر بعيدا عن الحروب البسوسية و المذابح و الجمود عند الاقتصاد الرعوي المتخلف .
الحق المطلق لتفسير النص هو حق إلهي و ليس بشريا، و بالتالي ممنوع لأي شخص مهما كانت صفته أو (نزاهته) الاستحواذ على هذا الحق، و لذلك أجيز (الاجتهاد) و لكن بشروط حيث لا يحق للمجتهد أن يزعم بأن رأيه هو الصحيح دون سواه، أي أن حق الاجتهاد مرهون بالعمل و النشاط و التفكير الجمعي و ليس حقا فرديا. و يصبح الاجتهاد من هذا المنطلق ضرورة و ليس حقا و حسب . يبذل البعض جهودا جبارة لتفسير النصوص الدينية بمنهجية و رؤيا مبنية على دراسة و تمعن في النص، و هذا حق مشروع و مطلوب لكل من تخصص في هذا المجال و اكتسب القدرة الاكاديمية لمثل هذا العمل, فلا يجوز الجاهل غير متعلم حتى لو كان يحفظ ما تيسر من القرآن أن يقرر فقهيا ما هو الحلال و الحرام ولا يحق له الاجتهاد، فالاجتهاد هو القدرة على البحث العلمي لإيجاد السببية و الظروف الموازية المتعلقة بتاريخية و متطلبات الحدث الاجتماعي و استنباط العبرة منه. لقد أدت مثل هذه الجهود تاريخيا لظهور مدارس فكرية متعددة (مذاهب)، تفاعلت فيما بينها في سباق فكري متنافسة لإيضاح الحقيقة إبان ازدهار الحضارة الاسلامية، و لكنها تمزقت و تفككت و عادت بعضها بعضا خلال انهيار ذلك الصرح العظيم، و بروز النزاعات السياسية على الملك و التسلط. كما أنها اصبحت معادية لبعضها إبان الحكم العثماني و ما تبعه من هيمنة استعمارية اعتمدت سياسة فرق تسد.
ورشة العمل الفكرية الاسلامية هذه كانت مثمرة و متنامية وفرت القاعدة الأساسية للنهوض الأوروبي والبشري فيما بعد.
- الدمام