للقيمة منزلة في تاريخ التعامل مع الأدب لا تخلو من غرابة. فهي، من ناحية أولى، وراء ما تُمْنَى به الأعمال الأدبية من شهرة وانتشار أو إهمال وترك. ذلك أن الحكم الذي يصدر في الأعمال الأدبية يُسهم، إلى حد كبير، في تحديد مصيرها. وهي، من ناحية ثانية، ممّا يمعن الباحثون في تجنبه مدّعين أنها تغرق في الذاتية لكثرة ما يدخل فيها من انفعال وانطباع وتذوق وهذه جميعا مما لا يمكن درسه موضوعيا أو الوصول فيه إلى نتائج مقنعة أوقابلة لأن يتمّ التثبت منها. ومما يستدل به على فساد التعويل على الانطباع والانفعال والتذوق أن آداب الشعوب لم يتفق أهلها، في العصر الواحد والعصور المختلفة، على أفضل الأشعار أو الشعراء أو الروايات أو الروائيين...وذلك لأن هذا النوع من ردود الأفعال سريع التحوّل والتنقل لدى الفرد الواحد والجماعات. ومن هنا أعلن كثير من الباحثين أن «القيمة» لا تصلح لأن تكون مبحثا قابلا للمعالجة العلمية فزهدوا فيها وأمعنوا في الانصراف عنها.
غير أنه لا يكفي أن يعلن الباحثون انصرافهم عن البحث في القيمة بدعوى أنها لا تصلح للمعالجة الموضوعية حتى يكون موقفهم وجيها. فالموضوعية التي تتبجح البحوث العلمية بالرفع من لوائها حتى أصبح العلم مسرفا في الأسطرة ليست منوالا واحدا يمكن تطبيقه على سائر المباحث. وممّا قد يدل على ذلك أن القيمة في الأدب قد عولجت، مثلما يبيّن ذلك عدد من الباحثين غير قليل، معالجة غير قويمة لأن الخلط كان فيها كبيراً بين السؤال المعرفي المهتم بالأدب والسؤال القيمي المهتم بالأعمال الأدبية الجيدة. فالتساؤل عن العمل ما إذا كان أدبيا أم غير أدبي يختلف شديدا عن التساؤل عما إذا كان من الأدب الجيد أو غير الجيد.
يدل على هذا أننا عندما نتساءل عن العمل ما إذا كان أدبيا أو غير أدبي نلتمس، في الجواب، المقوّمات التي تساعد على الحكم بانتمائه إلى جنس الأدب أو عدم انتمائه إليه. معنى هذا أن السؤال يندرج، حينئذ، في المجال المعرفي. فإذا عثرنا في عمل من الأعمال على مقومات الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، قضينا بأنه أدبي، وإذا لم نجدها نفينا عنه تلك الصفة. أما عندما نتساءل عن العمل الأدبي ما إذا كان جيدا ( مستعملين في العادة مصطلحات غامضة جدا كالجودة والروعة والجمال والسحر...) فنحن نتساءل عن مدى حظه من الجودة. وهذا في الحقيقة سؤال جمالي.
في التساؤل المعرفي ينصرف الاهتمام إلى التماس المقومات الدالة على الانتماء إلى الجنس. وهذه المقومات تطلب، أكثر ما تطلب، في ما يصطلح عليه بالأشكال. فالمعروف أن التنوّع في الأشكال هو الذي أدّى إلى إدراج الأعمال الأدبية في أصناف حتى كان لكل صنف أمارات ثابتة ومطردة دالة عليه. وهذا متواتر متداول في التعريفات والتصنيفات الأجناسية.
غير أن مفهوم الشكل في الأدب يكتنفه كثير من الغموض الذي يجعله قابلا لأن يشمل كثيرا من العناصر المتباينة. فالشكل، من حيث هو أداة للتعرّف، يمكن أن يشير إلى الجنس الأدبي الذي يندرج فيه عمل من الأعمال مثلما يمكن أن يشير إلى مدى احترامه للمتواضع عليه من مقوّماته الأساسية أو إلى عنصر من العناصر المستعملة في صياغته. والمعروف أن الشكلانيين الروس عندما اعتمدوا الشكل في البرهنة على أدبية الأعمال الأدبية قد جعلوه أيضا قيمة لها خاصة أنهم قد سعوا إلى البرهنة على تلك الأدبية انطلاقا من نصوص راسخة في الانتماء إلى الأدب حتى باتت معالم تستخلص منها المقومات الأجناسية. ولكن الشكل أيضا كثيرا ما يتمّ الخلط بينه وبين المضمون الذي يُفصَل عادة عنه دون أن يتبع ذلك عملٌ بذلك الفصل، ففي التعريفات السائرة لمعظم أجناس الأدب لا نجد إلا اعتمادا ضئيلا جدا أحيانا للمقومات الشكلية. وهذا يعني أن الخلط بين المعرفي والجمالي ما زال مستمرا في السيطرة على الأذهان.
على أن السؤال القيمي ( أي الجمالي) نفسه لا يخلو، هو أيضا، من اضطراب في التماس الأجوبة عليه. فإذا قضينا في عمل أدبي بأنه جيّدٌ لم ندر إلى أي شيء نرجع الجودة فيه. فهل هي، مثلما تذهب إليه بعض النظريات الجمالية الشهيرة، في جماله جمالا غير غائي وغير نافع؟ إذا ذهبنا إلى هذا الرأي لم ندر أيّ شيء نصنع بالأعمال التي هي، في آن واحد، جميلة ونافعة أو جميلة وغائية. وإذا نحن صرفنا النظر عن النفع والغائية وما فيهما من عصيّ الإشكالات واعتمدناهما، مجتمعين أو مفترقين، واجهتنا قضايا أخرى كثيرة يصعب تجنبها. فهل للتقييم مثلا سلمٌ من القيم يمكن اعتماده؟ فإذا نحن أحللنا القيمة في النفع ( قيم الصلاح والأخلاق والخير...) مثلا، واجهتنا أعمال تنتهك هذه القيم وتأتي، مع ذلك، جيدة جودة لا ينكرها إلا جاحد. وإذا نحن أحللنا القيمة في احترام قواعد الفن أو الجنس واعت برنا ذلك معيارا للجودة واجهتنا أعمال تنتهك تلك القواعد وتخرج عليها وتعتبر أيضا جيدة. هذا يسلم، بطبيعة الحال، إلى اعتبار الجودة في حيّز أبعد من النفع وغير النفع ومن احتذاء القواعد وعدم احتذائها. بل هو يُسْلم إلى أن القيمة ليس لها نظام من المعايير يمكن اعتماده في إثباتها أو نفيها.
أنهى ما يمكن الارتياح إليه، بعضا من الارتياح، أن القيمة، في الأعمال الأدبية، موقعية. فهي في النفع واللا- نفع وفي الغائية واللا- غائية وفي الخير وغير الخير وفي الامتثال للقواعد وغير الامتثال لها. وهي، أكثر من ذلك، في هذا العنصر بالذات من هذا العمل بالذات دون أن تكون في سواه من سائر عناصره وإن كانت تبدو فيه هي ذاتها، نعني أنها كمية حينا ونوعية حينا آخر.
ولكن القول بموقعية القيمة وما ينجرّ عنه من نفي للقول بأنها مطلقة لا يقدمنا، مع ما له من أهمية، كثيرا في حل إشكالاتها المسرفة في التعقيد.
فالسؤال الذي يبقى مطروحا هو الآتي: ما الذي يجعل أعمالا من بين الأعمال الأدبية تتراءى أفضل من سواها أو مجسمة للقيمة فيها؟ يتجه التماس الجواب على هذا السؤال، في سياق الاستفادة من مكاسب الانفجار التنظيري الذي تشهده الدراسات الأدبية والجمالية، إلى النظر إلى الأعمال الأدبية على أنها غير منتهية. ففيها من متعدد الخصائص ما يسمح للقراء المتعددين والمتنوعين أن يجد كلّ منهم فيها ضالته. ذلك أنها يمكن أن تكون نافعة وأن تمتع وأن تجود على من يستنطقها بالجواب الذي ينشده وأن تظل مع ذلك كله منفتحة لاستقبال المزيد من الأسئلة لتجودَ بالمزيد من الأجوبة. فهي كالطاقة الكامنة التي كلما تفاعلنا معها استجابت وبذلت. لذلك فهي تقبل أن تستعمل بعض مكوناتها في شتى المجالات لتظل دائما هي هي في صمتها الناطق مهيأة للنهوض بمتعدد الوظائف ومتنوعها.
- تونس