نواصل مع الجزء الثالث من مقالة «أزمة الشعر والشعراء» للشاعر والناقد الأمريكي مايكل دانا جويه:
وتلك هي القضية الحقيقية؛ فثقافة الشعر «الفرعية» لم تعد تفترض أنه ستتم قراءة كل القصائد المنشورة. ومثل زملائهم في الإدارات الأكاديمية الأخرى، يجب على مهنيي الشعر النشر من أجل الأمن والتقدم الوظيفي على حد سواء. وكلما نشروا أكثر، ترقوا وظيفياً بصورة أسرع. إذا لم ينشروا، أو انتظروا فترة طويلة جداً، فسيتعرض مستقبلهم الاقتصادي لخطر الشديد.
يتفق الجميع، بالطبع، في الفن والأدب على أن الكيف وليس الكم هو ما يهم. بعض المؤلفين ينجون من الفناء بسبب قصيدة واحدة لا تنسى، كقصيدة إدموند والر «اذهبي أيتها الوردة الجميلة» على سبيل المثال، أو قصيدة إدوين ماركهام «الرجل ذو المعزقة»، والتي اشتهرت بعد نشرها في مئات الصحف وهو أمر غير وارد اليوم. ولكن البيروقراطيات، بحكم طبيعتها، تجد صعوبة في قياس شيء غير ملموس مثل الجودة الأدبية. وعندما تقيّم المؤسسات الفنانين المبدعين للحصول على عمل أو لأجل الترقية، لا تزال تبحث على ما يبدو عن أساليب موضوعية للقيام بذلك. وكما لاحظ الناقد بروس باور: «القصيدة هي، في النهاية، شيء هش، وتخضع قيمتها الجوهرية أو عدمها لنظرة ذاتية بشكل كبير، ولكن المنح الدراسية والشهادات والتعيينات والمطبوعات، هي حقائق موضوعية؛ فهي قابلة للقياس الكمي، ويمكن سردها في سيرة ذاتية».
الشعراء الجادون للحصول على وظائف في المؤسسات، يفهمون أن معايير النجاح هي «كمية» في المقام الأول. يجب عليهم نشر أكبر قدر ممكن من الشعر في أسرع وقت ممكن. النضوج البطيء المطلوب للوصول إلى الإبداع الحقيقي يعتبر كسلاً في لجنة التقييم. كان عمر الشاعر المرموق والاس ستيفنز، 43 عاماً، عندما ظهر كتابه الأول. وكذلك كان عمر الشاعر العظيم روبرت فروست، 39 عاماً، عندما صدر كتابه الأول. اليوم سوف يكون هؤلاء الكسالى من العاطلين عن العمل.
لقد كان انتشار المجلات ودور النشر الأدبية على مدى السنوات الثلاثين الماضية ليس استجابة لزيادة شهية جمهور القراء للشعر فحسب، بل بسبب حاجة المعلمين المهنيين الماسة للكتابة للتأكد من عدم انتهاء صلاحيتهم للتدريس؛ أي لإثبات أن مفعولهم لا يزال سارياً. ومثل الزراعة المدعومة التي تزرع غذاء لا يريده أحد، تم إنشاء صناعة شعر لخدمة مصالح المنتجين وليس المستهلكين. وخلال هذه العملية تزلزلت منزلة هذا الفن. وبالطبع، لا يسمح لأي شاعر أن يعترف بهذا علانية لأن الصدقية الثقافية لمؤسسة الشعر المهنية تحافظ على نفاق مهذب. ملايين من دولارات التمويل العام والخاص هي على المحك. ولحسن الحظ، لا أحد خارج ثقافة الشعر الفرعية يهتم بالتحقيق في هذه النقطة بصورة معمقة. ليس هناك محققون مهرة مثل الصحافيين وودوارد وبيرنشتاين (اللذين كشفا فضيحة ووترغيت) ليحققا في التغطية الاحتيالية من قبل أعضاء برامج الكتابة الإبداعية المرتبطة بالأمر.
لقد أصبح الشاعر الجديد يحصل على لقمة العيش ليس عن طريق نشر العمل الأدبي ولكن من خلال توفير الخدمات التعليمية المتخصصة. والأرجح أنه يعمل أو يطمح للعمل في مؤسسة كبيرة - عادة من مشاريع الدولة، مثل المدرسة، الكلية، أو الجامعة (أو مؤخراً حتى المستشفى أو السجن) - لتعليم الآخرين «كيفية كتابة الشعر»، أو على مستوى أعلى، «كيفية تعليم من يعلم الآخرين كيفية كتابة الشعر».
وللنظر في القضية من وجهة نظر اقتصادية بحتة، فقد نُفِّرَ معظم الشعراء المعاصرين من وظيفتهم الثقافية الأصلية. وكما زعم ماركس وجادله قليل من الاقتصاديين، فإن التغيرات في وظيفة الطبقة الاقتصادية تؤدي - في نهاية المطاف - إلى «تحول» في القيمة والسلوك. وفي حالة الشعر، أدت التغييرات الاقتصادية والاجتماعية Socioeconomic إلى ثقافة أدبية مقسمة: وفرة كبيرة من الشعر ضمن فئة صغيرة وفقر خارجها. ويمكن للمرء أن يقول إنه خارج قاعات الدراسة - حيث يطلب المجتمع من المجموعتين التفاعل - فإن الشاعر والقارئ العادي لم يعودا صديقين.
وكان لطلاق الشعر عن القارئ المتعلم، نتيجة أخرى أكثر هدماً. رؤية الكثير من الشعر الرديء لا ينشر فحسب، بل يشاد به؛ وعند تصفح العديد من كتب المختارات الشعرية والمجلات الصغيرة المملة، فإن معظم القراء - حتى أولئك رفيعو الثقافة مثل جوزيف إبستين - صاروا يقولون إنه لم يعد يُكتب أي شعر جديد مهم. هذا التشكك العام يمثل العزلة النهائية للشعر كشكل من أشكال الفن في المجتمع المعاصر.
والمفارقة هي أن هذا التشكيك يأتي في فترة الإنجاز الحقيقي. قانون السير توماس كريشام الشهير، أن العملة السيئة تطرد العملة الجيدة من السوق ينطبق فقط - جزئياً - على الشعر الحالي. قد يكون الحجم الهائل للرداءة قد أخاف ونفر معظم القراء، ولكنه لم يطرد جميع الكتاب الموهوبين من الميدان. أي شخص صبور بما فيه الكفاية ليقوم بنخل الأعمال المعاصرة، سيجد مجموعة مثيرة ومتنوعة من الشعر الجديد.
أدريان ريتش، على سبيل المثال، على الرغم من جدلها المتعجرف في كثير من الأحيان، هي شاعرة كبيرة بكل المقاييس. أفضل أعمال الشعراء دونالد جستيس، أنتوني هيشت، دونالد هول، جيمس ميريل، لويس سمبسون، وليام ستافورد، وريتشارد ويلبر - إذا ذكرنا فقط كتاب الجيل الأكبر سناً - يمكن أن تصمد بنفسها ضد أي منافس في الأدب الوطني. يمكن للمرء أيضاً إضافة سيلفيا بلاث وجيمس رايت، وهما شاعران قويان من الجيل نفسه ولكن توفيا في وقت مبكر عن 30 و52 عاماً على التوالي. وأميركا أيضاً بلد غني بشعر المهجر، فهناك كتاب كبار كما توحي به كتابات تشيسلاف ميلوش ونينا كاسيان وديريك والكوت وجوسيف برودسكي وثوم غان.
ولكن من دون دور في الثقافة الأوسع، يفقد الشعراء الموهوبون الثقة لخلق خطاب عام. أحياناً يرتبط كاتب بصورة مفيدة مع حركة اجتماعية أو سياسية. أدريان ريتش، على سبيل المثال، استخدمت الحركة النسوية لتوسيع جمهورها. وكتب روبرت بلاي، أفضل شعره احتجاجاً على حرب فييتنام. وأضاف إحساسه وهو يخاطب جمهوراً كبيراً متنوع الطرافة والشمول والإنسانية إلى تنوع شعره المحدود سابقاً. ولكن ربط الإلهام بالسياسة بصورة سعيدة ليس سهلاً، وبالتالي، فإن أكثر الشعراء المعاصرين عندما يدركون أنهم غير مرئيين تقريباً في الثقافة الأوسع، يركزون على أشكال شعرية أكثر حميمية من غنائية وتأملية.
وعلى الرغم من تميزه الواضح، فإن هذا العمل الجديد لم يعثر على جمهور خارج ثقافة الشعر الفرعية، لأن الآلية التقليدية للنقل، كالعروض النقدية الموثوقة والنقد الأمين والمختارات النوعية، قد تعطلت. الجمهور الذي جعل ذات مرة فروست وإليوت وكامينغز وميلاي، جزءاً من رؤيته الثقافية لا يمكن الوصول إليه، اليوم تحدي والت ويتمان الذي ينص على أنه «للحصول على شعراء عظماء، يجب أن يكون هناك جمهور عظيم أيضاً» يمكن اعتباره مثل اتهام.
من البوهيميا إلى البيروقراطية
وللمحافظة على أنشطتها، تحتاج الثقافات الفرعية عادة لمؤسسات، لأن المجتمع العام لا يشاركهم اهتماماتهم. هواة التعري يسيرون كقطيع إلى «معسكرات الطبيعة» للتعبير عن نمط حياة غير مقيد. والرهبان يبقون في الأديرة لحماية مثالياتهم المتقشفة. وطالما انتمى الشعراء إلى فئة أوسع من الفنانين والمثقفين، فإن يركزون حياتهم في البوهيميا الحضرية، حيث يحافظون على استقلال مشكوك به من المؤسسات. وعندما بدأ الشعراء بالتحرك نحو الجامعات، فإنهم تخلوا عن تغاير الطبقة العاملة في غرينتش فيليج ونورث بيتش لصالح التجانس المهني للأكاديمية.
في البداية كانوا يتواجدون على هامش أقسام اللغة الإنكليزية، والذي ربما كان أمراً صحياً. ومن دون الشهادات العليا أو المسارات الوظيفية الرسمية، تم تعريف شعراء الأكاديميا كـ»مخلوقات خاصة». وسمح لهم أن يتصرفوا وفقاً لقوانينهم الخاصة مثل زعماء قبائل السكان الأصليين (الهنود الحمر) عندما يزورون مخيم لعالم أنثروبولوجيا. ولكن عندما زاد الطلب على الكتابة الإبداعية، توسعت وظيفة الشاعر من مجرد الأدب لتشمل مسؤوليات إدارية. وبناء على إلحاح من الجامعات، صمم ووضع هؤلاء الشعراء الذين طوروا مواهبهم ذاتياً، أول مناهج مؤسسية في التاريخ لتدريب الشعراء الشباب. وهكذا تطورت برامج الكتابة الإبداعية من كورسات نادرة تُدرس داخل أقسام اللغة الإنكليزية، إلى برامجها الجامعية الخاصة للبكارلوريوس أو الدراسات العليا. الشعراء صمموا اختصاصهم الأكاديمي في صورة التخصصات الجامعية الأخرى. وعندما تكاثرت أقسام الكتابة الجديدة، قام هؤلاء المهنيون الجدد بتنميط بنيتهم التحتية - أسماء الوظائف، المجلات، المؤتمرات السنوية، والهيئات - وفقاً لمعايير لا تتبع بوهيميا المناطق الحضرية ولكن للمؤسسات التعليمية. ومن هذه الشبكات المهنية التي خلقها هذا التوسع التعليمي، ولدت ثقافة الشعر الفرعية.
في البداية، لابد أن تضاعف برامج الكتابة الإبداعية كان حدثاً سعيداً إلى حد مذهل. الشعراء الذين عاشوا على الكفاف من قبل في البوهيميا أو أمضوا شبابهم المبكر كمقاتلين في الحرب العالمية الثانية حصلوا فجأة على وظائف مستقرة وذات أجور جيدة. الشعراء الذي لم يحصلوا مطلقاً على انتباه الجمهور وجدوا أنفسهم محاصرين من قبل طلاب متحمسين لتعلم الشعر. الشعراء الذين كانوا فقراء جداً ولا يستطيعون السفر صاروا يطيرون من حرم جامعي إلى حرم جامعي آخر، ومن مؤتمر إلى مؤتمر للتحدث أمام جمهور من أقرانهم. عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية المشرق وعد بنهضة للشعر الأميركي.
من الناحية المادية، فقد تم الوفاء بهذا الوعد بما يفوق أحلام أي شخص في جيل بيريمان الذي مزقته الكآبة. فقد أصبح الشعراء يحتلون الآن منازل رفيعة في كل مستوى في المؤسسات الأكاديمية، تتراوح من عدد قليل من الكراسي الوقفية الباذخة برواتب ذات ست خانات إلى العديد من الوظائف غير المتفرغة التي تدفع تقريباً مرتبات مثل «برغر كينغ». ولكن حتى في الحد الأدنى للأجور، أصبح تدريس الشعر يُكْسِب الشاعر أكثر من كتابة الشعر. وقبل طفرة برامج الكتابة الإبداعية، فإن كونك شاعراً كان يعني عادة أن تعيش حالة فقر محترمة أو ما هو أسوأ. وفي حين أن التضحيات التي تطلبها الشعر تسببت في معاناة للفرد أكثر من ذلك بكثير، فإن القسوة المطلوبة لتحقيق ما سماه ميلتون «الإلهام ناكر الجميل» وفرت أيضاً المصلحة الجماعية الثقافية المخيفة للجميع باستثناء الفنانين الملتزمين.
الشعر اليوم هو بتواضع مهنة من الطبقة الوسطى الصاعدة - ليس مربحاً مثل إدارة النفايات السامة أو علاج الأمراض الجلدية، ولكنه يفوق بعدد من الدرجات قذارة البوهيميا.
نواصل بحول الله الأسبوع القادم
Hamad.aleisa@gmail.com
- المغرب