هل يُمكن للشكل البيتي العمودي أن يتحوّل إلى قصيدة تفعيلية أو قصيدة نثر؟
بصرياً؟ ممكن، وجمالياً ودلالياً أيضاً.. لنتفضل بقراءة هذا النص الشعري القصير:
نزار قباني:
رسالة حب صغيرة
حبيبتي:
لديَّ شيءٌ كثيرْ
أقولُهُ،
لديَّ شيءٌ كثيرْ
من أينَ يا غاليتي أَبتدي؟
وكلُّ ما فيكِ أميرٌ.. أميرْ
يا أنتِ..
يا جاعلةً أَحْرُفي
ممّا بها، شَرَانِقاً للحريرْ
هذي أغانيَّ.. وهذا أنا
يَضُمُّنا هذا الكِتابُ الصغيرْ
غداً.. إذا قَلَّبْتِ أوراقَهُ
واشتاقَ مِصباحٌ..
وغنّى سريرْ
واخْضَوْضَرَتْ من شوقها أحرفٌ
وأوشكتْ فواصلٌ أن تطيرْ
فلا تقولي:
يا لهذا الفتى!!
أخْبرَ عَنّي المنحنى، والغديرْ
واللّوزَ.. والتوليبَ..
حتى أنا..
تسيرُ بِيَ الدنيا.. إذا ما أسيرْ
وقالَ ما قالَ:
فلا نجمة إلاّ عليها مِنْ عَبيري عَبيرْ
غداً يراني الناسُ في شِعْرِهِ
فَمَاً نَبيذِيّاً.. وشَعْراً قَصيرْ
* * *
دعي حَكايا الناسِ..
لَنْ تُصْبِحِي كبيرَةً.. إلاّ بِحُبِّي الكَبيرْ
ماذا تصيرُ الأرضُ لو لم تكنْ
لو لَمْ تكنْ عَيناكِ..
ماذا تصيرْ؟؟
بهذا الشكل الشعري لقصيدة: «رسالة حب صغيرة» استهل نزار قباني ديوانه قصائد الصادر في العام 1956م (والنص مأخوذ من الطبعة الحادية والثلاثين، بيروت 1981م). إن شكل النص بداهة يُبدي قدراً من التماسك والهارمونية في نسيج شعري مترابط، أظهر فيه نزار قباني مهارته الشعرية المعهودة، في ترتيب الأسطر على الصفحة الشعرية، في تبيين لحظات القراءة ولحظات التوقف عبر تتالي الكلمات بإيقاعاتها ومعانيها، ووحداتها الصرفية، وعبر علامات الترقيم.
النص هنا اتخذ منحى جمالياً لا منحى بصرياً فحسب، إذ إن شكل الرسالة المكتوبة في سياقها النثري يتجلى هكذا في توزيع الأسطر بشكل يُوائم بين طول الأسطر وقصرها.. والرسالة هنا «رسالة حب قصيرة» وهي رسالة شعرية بالأحرى، ومن هنا فإن نزار قباني يُكثّف المعنى في كلمات قليلة، صغيرة جميلة، لأنه وهو مبدع الشعر الأنيق الذي تتأنق فيه لغاته وكلماته وصوره وتتزين جمالياً، يسعى دائماً إلى تكثيف المعنى بأقل الكلمات، إنه يُمارس ببراعة مفهوم التقشف اللغوي، لكنه لا يتخلى أبداً عن منظومته الجمالية الأنيقة. إذا نظرنا إلى النص في شكله البصري سنجد أن نزار استهل نصه بأربعة أسطر شعرية يقول فيها:
حبيبتي
لدي شيء كثيرْ
أقوله
لدي شيء كثيرْ
بهذا المنادى المحذوف الأداة بدأ النص، وهو منادى ذو دلالات عميقة في الذهنية الشعرية العربية، هو دالة ليست عادية، بل هي إحدى الدلالات الإنسانية والجمالية كثيفة الحضور في الكتابة: «حبيبتي».. احتلت وحدها السطر الشعري الأول، وهي في شكلها البصري هنا تُمثّل أيقونة، لوحة معنوية - إذا جاز المقصد - وهي من جانب آخر تفتح مجالاً متوقعاً للتعبير عن كلام شعري قادم.. فالمنادى هنا: «حبيبتي» يزجي حيال توقعاتنا رؤى قادمة، شافة عما يخايل كاتب الرسالة: «الشاعر» من صور ودلالات.
الحبيبة هي المناداة، وهي أول من يتلقى رسالة الحب الصغيرة، والقارىء هو المشاهد والمتفرج والمتلقي الثاني للرسالة بعد الحبيبة سواء كانت حقيقية أم متخيلة.. وفي هذا فإن القارىء يبقى في حال انتظار مثله مثل الحبيبة، ومبدع النص هو الذي يصوغ، ويهيمن، ويُرى دلالياً. وتوزيع الأسطر الأربعة بصرياً وازى إيقاعياً بين: «حبيبتي» و»أقوله» والكلمتان تفتحان معا مجالاً دلالياً واسعاً، الكلمتان مرتبطان سيميائياً وبصرياً وإيقاعياً، كلتاهما مندرجتان في فضاء التفعيلة: «مفاعلن» إحدى مظاهر التفعيلة الأصلية «مستفعلن» بعد دخول «الخبن» عليها بحذف الثاني الساكن.
أما السطر المحتشد بالدلالة فهو الثاني الذي يتكرر كما هو في الرابع: «لدي شيء كثير» ليثير استجابة القارىء بهذا التكرار، والتأكيد على أهمية ما سيقوله الشاعر بعد ذلك من عبارات.
«2»
في النص النزاري تتتالى الدلالات التي تحملها الأسطر الشعرية، ولولا أن رؤيتنا هنا تسعى لبيان الشكل البصري للنص، لتحدثنا عن جمالية الصور وحركتها الكثيفة المتسلسلة، وسردنا نقدياً حوافها السياقية والتركيبية، وبيّنا كثافتها التعبيرية الأنيقة، بيد أن الالتفات للشكل هنا له وجاهته في قراءتنا.. فما أود الوصول إليه هنا هو أن الشاعر قدم لنا شكلاً نصياً نقل فيه النص الشعري العمودي التقليدي البيتي إلى شكل أقرب للرسالة الشعرية، إلى شكل يستعير فيه الشكل التفعيلي والنثري للكتابة، وهذا من معجزات النص البيتي التقليدي الذي تستطيع أن تُشكّله بصرياً كيفما شئت.
لقد مزج نزار قباني بجرأة إيقاعية ملحوظة بين تفعيلات الشطرين الواردين من بحر السريع «مستفعلن مستفعلن فاعلن.. مستفعلن مستفعلن فاعلان» وأعاد تفتيت التفعيلات ومزجها بتوزيعها في أسطر شعرية، حافظ فيها حين أعلى التركيبة العروضية البيتية، وكسر إيقاع هذه التركيبة في أحيان أخرى، حتى إن الشطرين امتزجا في عدة مشاهد، كما في قوله مثلاً:
دعي حَكايا الناسِ..
لَنْ تُصْبِحِي كبيرَةً.. إلاّ بِحُبِّي الكَبيرْ
فتوقف عند كلمة «الناس» في السطر الأول كاسراً ترتيب البيت عروضياً، ثم واصل تكسير هذا الترتيب بالمزج بين عروض الشطر الأول وبداية الشطر الثاني، حيث كان من المفترض أن ينتهي الشطر الأول عند كلمة: «تصبحي»، وقد تكررت هذه الصياغة في أسطر شعرية أخرى بالنص. بطبيعة الأمر اعتمد نزار قباني على آلية: «التدوير العروضي» ومتابعة إعادة لصق السطر بالسطر حتى يكتمل الشكل العروضي، وتتلاقى الكلمات في شريطها العروضي المتتابع، على الرغم من أن التدوير يمتنع في الشكل العمودي الذي يختتم دائماً بقافية، تنتهي عندها الصورة العروضية للبيت الشعري بشكل مكتمل سليم، وهذا ما قد يحفزنا لاستلهام الشكل البصري لشعر التفعيلة وقصيدة النثر لإجرائها على الشكل البيتي ليقبل آلية التدوير من خلال مناطق الحشو داخله.
«3»
يُبدي النص النزاري هنا قدراً كبيراً من مطواعية الشكل العمودي البيتي على الكتابة بأي شكل بصري، لأن الشكل التناظري الذي اعتدنا عليه، شطر مقابل شطر حتى نهاية القصيدة، قد يعطي إطاراً معيناً، وتنميطاً محدداً لآلية القراءة الشفاهية الإنشادية التي تبدأ بالبيت وتنتهي عند اقلافية، أما في هذا الشكل فإن ثمة مساحات قراءة غيقاعية متعددة متنوعة.
نزار قباني لم يرد في هذا النص أن يقدمه في شكله الحقيقي.. فالمباغتة الجمالية المدهشة أن هذا النص القصير هو نص عمودي بيتي من الطراز الأول، وما يدهشنا كقراء هنا أن تحويله إلى شكل بصري حديث أعطاه جملة من الميزات التي انفتحت على شكل الإيقاع، وشكل الكتابة، وتوزيع الأسطر الشعرية. لقد تحولت الأبيات إلى أسطر، وتحولت القوافي إلى أيقونات بصرية، وازداد بعد الكثافة الجمالية للكلمات. إن هذا يدلنا على أن النص العمودي نص مفتوح على مختلف الأشكال.. فلم تحدث عوئق فنية محددة حيال الانتقال من الشكل البصري البيتي إلى الشكل البصري التفعيلي أو النثري.. وأن قابلية تشكله ومطواعيته البصرية كبيرة وثرة ومدهشة.
لقد أراد نزار قباني أن يقلنا إلى رسالته بطريقته الخاصة ففتح المجال أمامنا بصرياً، ووزع كلماته بشكل جديد مختلف، ليفرض علينا طريقة معينة أكثر خصوبة وأكثر ثراء لقراءة نصه، بحيث لا نكتفي بالبعد التطريبي الإنشادي فحسب، ونقف عند نهايات الأبيات في قوافيها المنتظمة، ولكن بالبعد البصري الدرامي الإيقاعي أيضاً. إن تغيير طريقة الكتابة هنا بشكل بصري وتوزيع الأبيات إلى أسطر شعرية أعطى نغماً جديداً للنص تمثّل في التركيز على الكلمات بدلاً من التركيز على البيت، وأحدق بوعينا لنتمثّل كلماته، وصوره، وكثافته وأخيلته وأناقته الجمالية.
الرياض