قيمة الصراع مكون رئيس لتشكّل الفضاء العلائقي كما أنها هي المؤسس غالباً لثنائية دراما الخير والشر.
وأحسب أن البحث عن التعريف الوافي الشافي لماهيتي الخير والشر هو بمثابة الوقوع في فخ المتاهة.
لأن الخير والشر مرتبطان بما نعتقده، وبذلك لا يمكن أن نعرف الشر إلا من خلال ما نعتقد أنه خير، ولا يمكن أن نعرف الخير إلا من خلال ما نعتقد أنه شر.
والأشياء مجردة من هوية الاعتقاد لا يُمكن تصنيفها إلى خير وشر فهي خارج هوية الاعتقاد متساوية في القيمة المُحايدة ؛ أي مدى مبهم لا يمكن إنتاج فضاء من خلاله. وحتى تفقد الأشياء قيمتها المحايدة لتصبح قادرة على تحفيز إنتاج فضاء؛ أي قيمة متحيّزة لابد أن تتحول إلى مكون علائقي يمكن تصنيفه إلى خير أو شر، وهذا لا يتم إلا إذا اكتسبت الأشياء هوية الاعتقاد.
تتشكل هوية اعتقادنا من خلال العديد من المصادر مثل الأديان والثقافات والعلاقات والمفاهيم والخبرات والتجارب والأعراف. وبتلك المصادر تكتسب الأشياء توصيفاتها الوظيفية، كما تكتسب نسبيتها، باعتبار «أن كل محايد متحول هو ذو طبيعة نسبية»، و»كل محايد متحول هو بالضرورة ذو طبيعة متحيّزة».
وبذلك فاعتقادنا هو الذي يصنع الخير وهو الذي يصنع الشر، وهو ما يعني أن الخير والشر لا وجود لهما ولا أصل إلا من خلال ما تعتقده.
وقد يرى غيري أن هناك أصولاً إنسانية عالمية متفق عليها لتمييز الخير من الشر، ووجود اتفاق جمعي حول «تأصيل التمييز بين الخير والشر» يُبطل فكرة تعليق مفهوم الخير والشر بطبيعة اعتقادنا.
الشر الذي يخضع لأصول إنسانية متفق عليها لا يتم إلا من خلال القوانين، وكل ما يُعتبر شراً وفق توصيفات القوانين هو «الجريمة».
فالقوانين هي صياغة لمعايير يُحدد في ضوئها تأثير الفعل الفردي على عقيدة المجتمع، وبذلك فالقوانين بدورها تخضع معاييرها لعقيدة المجتمع، «فسبّ الأديان» في المجتمعات اللادينية ليس بجريمة توجب العقوبة القانونية؛ لأنه يدخل في باب «حرية الرأي» باعتبار أن الدين ليس مؤسساً لعقيدة المجتمع، في حين أن «سبّ الدين» في مجتمع ديني جريمة كبرى توجب «العقوبة قانونية» لأنه يدخل في باب»الكفر والإلحاد»؛ باعتبار أن الدين هو مؤسس عقيدة المجتمع، وكذلك الأمر بالنسبة للقتل في سبيل الدفاع عن الشرف أو الانتقام للشرف، ففي بعض المجتمعات القبلية القتل من أجل الشرف لا يُعد جريمة تّوجب العقاب، وفي المجتمعات المدنية القتل هو جريمة تُوجب العقاب مهما كان دافع القتل.. وبذلك لا يُمكننا أن نعتبر «معايير الجريمة» هي «تعريف للشر».
أولاً ما يُوجب التوصيف بالجريمة» الفعل الفردي أو الجماعي أو الأثر الظاهر المهدد أو المضر لحقوق الفرد والمجتمع ومصالحه»؛ فكل سلوك يهدد أو يضر بالفرد أو المجتمع يدخل في «باب الجريمة» المنصوصة بقانون والموجبة للعقوبة.. وبذلك فالجريمة حكم يختص بحاصل الفعل ولا يختص بالفكر إلا إذا أسهم في حاصل فعل.
لكن الأفكار التي لا يمكن ضبطها بالتأثير المباشر بالتهديد أو الضرر لا تُحسب وفق القانون «جريمة»، وإن اعتبره المجتمع شراً. فالفكر الليبرالي كما يحسبه الفكر المتدين شراً لكنه وفق معايير القانون لا يعد جريمة.
وبذلك فليس كل شر بجريمة، كما أن ليس كل جريمة هي شر؛ فقد يدخل في «باب الجريمة ما هو خير» وهنا نعود من حيث البدء ارتباط الخير والشر باعتقادنا.
وفكرة ارتباط الخير والشر بالاعتقاد وردت في القرآن الكريم من خلال آية القتال قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (216) سورة البقرة.
وفي آية النكاح قوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} النساء 19
ومن خلال الآيتين نلاحظ أن موقف الإنسان من تصنيف الأشياء إلى خير أو شر هو موقف مبني على ما يعتقده، وأن ما يعتقده المرء في تصنيفه لطبيعة الأشياء قد يكون غير حقيقي ويوقع في الوهم، لأنه مرتبط بدوره بخصوصية مشاعر «الحب والكره»، وكل الانفعالات الإنسانية تبنى من خلال مشاعر الحب والكره.
وتختل قدرة الإنسان على التمييز بين حقيقة ما هو خير له وما هو شر له متى ما ربط تلك القدرة على التمييز بعاطفتي الحب والكره.
لأن العاطفة تخدع العقل فتعيق المنطق عن التمييز الاستقرائي لحقيقة قرار الاختيار؛ لأنها تحدد أبعاد المربع الأولى المنظور. فكل ما نحبه نعتقده أنه خير وكل ما نكره نعتقد أنه شر، والاستسلام للعاطفة كمصنِف لقيمة الأشياء من حيث انتمائها للخير أو للشر تُلغي وظيفة العقل الذي يُصنف قيمة خيرية الأشياء وشرها وفق توقع نفعيتها أو ضررها، وبناء التوقع الذي يمارسه العقل يتميز بأنساق متعددة ومت نوعة توافق المقاصد المختلفة بعيدة المدى، ولذلك خُتمت الآية بقوله تعالى: {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}، وهو التفات إلى أن قيمة الشيء حيوية ثابتة مرتبط نفعيتها بدوام الوقائع والمعرفة وتطور الإنسان.
الخطية الشرطية بين القيمة والاعتقاد تؤدي بدورها إلى ثنائية نمطية هي؛ أن كل الخير الحاصل وفق ما نحبه هو الذي يؤسس لمنظومة اليقين والصحيح، وكل الشر الحاصل وفق ما نكره هو الذي يؤسس لمنظومة الإنكار والخطأ، ومن هنا تبدأ «دراما هرمجدون».
(للحكاية بقية)،،،
جدة