جاءت تقلبات على شعوب شبه الجزيرة العربية في العصر الحديث، مرت فيها بظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية متعددة. قليل من تلك الظروف كان جيداً أو مقبولاً، وأغلبها كان رديئاً جداً؛ فالجفاف وقلة موارد البيئة الصحراوية كان هو السبب الرئيس في المجاعة أحياناً، أو ندرة الطعام ومصادره للإنسان أو الحيوان الذي يعتمد عليه الإنسان في غذائه وتنقلاته. وبالطبع ينشأ عن مثل هذه الظروف الاقتصادية علاقات اجتماعية حرجة بين الفئات المكونة لتلك المجتمعات، وينعكس الأمر أيضاً على أوضاعها السياسية، التي لا بد أن تكون متوترة في الداخل ومع القوى الخارجية أيضاً.

ومع كل هذه المنغصات على كل مستوى، وهي بالضرورة ستنطبع على سلوك الفرد وثقافة الجماعات المختلفة في هذه البقعة الجغرافية؛ وجدناها تحتضن بيئة تدعو إلى التفاخر بين أفرادها، كما تتفاخر كل فئة بأشياء واقعية (ليست مدعاة للفخر في المجتمعات الطبيعية)، أو بأشياء متخيلة أو بعناصر من التاريخ الماضي، إزاء الفئات الأخرى. وتنظم كل منها الشعر، وتحكي القصص والأمثال التي تشير إلى تلك المميزات، كما تظهر على ألسنة المنتمين إليها بمختلف أعمارهم، وبغض النظر عن مواقعهم، وسياق حديثهم، أو حتى طبيعة الجمهور الذي يستمع إلى خطابهم.

امتدت عمليات التفاخر في حقبة تجاوزت الستينات من القرن الماضي الميلادي بدعاوى قبلية، وبعض قصص ما يسمى البطولات في منازعات بين قبائل متناحرة، ليس لها من سبب موضوعي إلا الظروف المبينة أعلاه. وبالرغم من الانصهار النسبي لأغلب قبائل شبه الجزيرة – في السعودية على وجه الخصوص – بعد المشروع الطموح للتوطين في الهجر الذي تبناه الملك عبد العزيز بُعيد توحيد البلاد، وكذلك رغم استيعاب عدد كبير ومختلف منهم في توظيف العسكريين المتوزعة مقراتهم في شتى مناطق المملكة، وفي شركة أرامكو كذلك؛ إلا أنه بقي هذا العنصر متوقداً في نفوس الناس، وإن لم يعد بشكل عدائي كما كان.

وفي الوقت نفسه كان التفاخر على أشده بين المدن أو القرى المتجاورة للفئات التي لا تنتمي إلى مجتمعات قبلية، ليصبح التنافس غير الإيجابي محموماً بين تجمعات سكانية لا تملك أصلاً مقومات الحياة الحديثة، لكي يتفاخر بعضها على بعض. وقد أفشل ذلك السلوك عدداً من المشاريع التنموية، التي يفترض ألا يكون وجود أي منها في أي من المكانين المتجاورين مدعاة لرفضه من الفريق الآخر. فأصبحت الأشياء تكرر في كل قرية أو مدينة صغيرة، بدلاً من أن تكون الخدمات والمشاريع فيها متكاملة.

أما في السبعينات وما بعدها، فقد طغت ظاهرة تفاخر أخرى؛ قوامها هذه المرة المال والممتلكات المادية بين الأفراد، أو الأسر المتجاورة في الحي الواحد. وكانت قد حدثت في منتصفها الطفرة المالية الناتجة عن زيادة دخل البترول، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الأراضي، وكميات الدخل غير المتوقعة من تثمين بعضها لصالح بعض المشاريع التنموية، أو في توسعة البنية التحتية للمدن على وجه الخصوص. فأصبح كل خامل ذكر، أو مستضعف، حصل على شيء من المال خلال تلك الطفرة يتفاخر بماله، ويقتني من السيارات ما يباهي به الناس، الذين يظن بأنهم أعلى شأناً منه في أمور أخرى. وبدأت عمليات التباهي في البيوت، التي أصبحت تكسى بالرخام، وتزين مداخلها الواسعة وأماكن استقبال الضيوف فيها بمكونات ثمينة وبراقة، دون أن يشمل ذلك أماكن سكنى العائلة نفسها. وتحولت العملية في العقدين اللاحقين إلى إنشاء قصور بشتى أنواع المعمار (من الغربي إلى الشرقي والصيني والأندلسي)، وأصبح أكثرهم غير مقتنعين بأحيائهم القديمة، مما رفع أسعار أراضي الأحياء الجديدة التي انتقلوا إليها.