تحدثتُ في أجزاء المقال الماضية عن أهم الإيجابيات التي تميز المناهج النقدية الحديثة، بدءاً من المناهج التقليدية ومروراً بالمناهج الشكلانية، وكان الحديث في الجزء الماضي عن أبرز المناهج الشكلية: (البنيوية)التي حاولتُ أن أكشف عن شيء من الجوانب المضيئة لهذا المنهج النقدي، وفي هذا الجزء سأستكمل الحديث عن منهجين من مناهج النقد الحديث لهما من الشهرة والانتشار مثل ما للبنيوية، بل إنهما يعدان من أبرز مناهج نقد ما بعد الحداثة، محاولا أن أتلمس مواطن الإيجابية فيهما، تحقيقا لمبدأ الحق والعدل، وتنبيها للدارسين إلى أن هذه المناهج ليست شرا محضا كما أنها ليست خيرا محضا؛ رغبة في الإفادة من نقاط قوتها وما فيها من إيجابيات. أما المنهج الأول فهو المنهج التفكيكي الذي يهدف إلى إنتاج تفسيرات لنصوص خاصة، غير أنَّ هذا الإنتاج لا يمكن أن يحصل مع قارئ عادي، بل لا بد له من قارئ ذي قدرات عالية، يستطيع التعامل مع الشفرات اللغوية التي يمكن له من خلالها أن يقوم بمعالجة النص وتفسيره وتأويله، كما يزعم أصحاب هذا المنهج أن النص الأدبي ليس متناسقا ومنسجما بطبيعته، بل ينزع إلى التفكك والتنافر، وأن هذا راجع إلى غياب المركز الثابت للنص، أو غياب الدلالات التي يفترض أن يكون حاملا لها.
والحق أنَّ نظرية التفكيك هي ردَّة فعل للمنهج البنيوي الذي أكَّد على فكرة البنية التي تفترض وجود مركز على الدوام، ومبدأ ثابت، ويحاول أن يوفق بين ما قد يكون في النص من تضاد، ويسعى إلى تقطيع النص إلى تقابلات ثنائية، وهنا تأتي التفكيكية التي تتحدَّى فكرة البنية الثابتة، وتزعم أنَّ جميع النصوص تحتوي على عناصر تمزيق، ونقاط قطع، ومجموعة من الفجوات، كما تتبنى مفهوم المضادات الثنائية التي ينتج عنه ضياع البناء ووحدته العضوية، وتحاول أن تكشف عن ميل التقابلات الثنائية إلى حرق ذاتها وتدميره؛ سعيا إلى الترسيخ والثبات.
ورغم المساوئ العديدة التي يلاحظها المتأمل لمبادئ هذا المنهج النقدي وأفكاره إلا أننا لا يمكن أن نغض الطرف عما يتضمنه من إيجابيات من حقه علينا أن نبينها ونكشف عنها، ومن أهمها في هذا السياق إفساح المجال لتعدد الأصوات، والنأي عن احتكار المعرفة كما فعلت بعض المناهج الأخرى، وتوجيه الانتقاد المبني على أسس سليمة وصحيحة إلى الفكر الغربي، وتحديدا إلى الذات الغربية التي تمركزت حول نفسها وادَّعت أنه لا سواها يملك الحقيقة المطلقة، ولا غيرها يستأثر بالمعرفة الصحيحة، وأكَّدت على عدم صحة زعم الغربيين الذي ادَّعوا أنَّ حل مشكلات الكون والإنسان محصورة في العلم الذي اعتقدوا امتلاكهم لمفاتيحه.
ثم إنَّ المدقق في المنهج التفكيكي يرى أنه يدعو إلى التنوع الثقافي والحضاري، وتعدُّد تجارب الشعوب وخبراتها، وهو بذلك يكسر احتكار الحضارة الغربية للحقيقة، ويُعرِّيها بآلياتها نفسها، رغم أنَّ دعوة التفكيكية بعد هذا هي أشد خطورة، حيث إنها في الحقيقية دعوة إلى هدم كل صوت.
ومن الإيجابيات الواضحة للتفكيكية رؤيتها أنَّ الخطاب الإبداعي مفتوح دوما ولا نهائي، وأن أي حديث عن انغلاقه خاطئ وغير صحيح، وإذا كانت البنيوية ترى أنَّ القارئ يظل دوماً غير مطلق الحرية، ولا يزال محكوماً بالنص وبإمكاناته الداخلية، فإنَّ التفكيكية تمنح القارئ المجال الأوسع للتفسير والتأويل، وترى أنَّ لكل قارئ الحق في تفسير النص بطريقته الخاصة، بل له الحق في إنتاجه وإعادة كتابته، ورغم ما في هذه الفكرة من تطرف ودعوة إلى الفوضى التأويلية إلا أن فيها مزيد احترام للمتلقي، ومنحه الثقة الكبرى في عملية التأويل والتفسير، ولعل نظرية التلقي تشارك التفكيكية هذه الفكرة بشكل أوضح وأكبر، فهاتان النظريتان تحاولان أن تسحبا بساط السيطرة المطلقة من تحت النص الأدبي وتمنحه للقارئ المتلقي الذي يستحق في نظرها النصيب الأكبر من الاهتمام.
وأرى أنَّ هذا الإجراء -دون التطرف فيه والمبالغة التي انتهجته هاتان النظريتان في هذه الفكرة- تمنح القراءة حرية أكبر ومساحة أوسع، وتجعل للنص مزيداً من الثراء الدلالي من خلال تعدُّد القراءات حسب نوعية المتلقي الذي يقوم بهذه العملية، والثقافة التي يكون مؤسَّساً عليها، ومن المهم هنا الإشارة إلى تفوق نظرية التلقي على التفكيكية في هذا السياق؛ إذ هي أكثر محافظةً وانضباطاً في منح الحرية للمتلقي، حيث قيَّدت سلطان القارئ ببعض الملابسات؛ مثل مفهوم تفسير الجماعة، ورؤيتهم أن الفراغات التي يملؤها المتلقي تتمثل في مناطق النفي التي تخالف أفق توقع القارئ، والمناطق المفصلية التي يتوقف فيها السرد في القصص، وهي بذلك تسعى إلى اجتناب فوضى التأويل التي وقع فيها التفكيكيون، رغم أنَّ أياً منها لم يفلح في ذلك.
لقد لاحظتْ هذه المناهج الأهمية الكبرى للقارئ لأي نص أدبي، وآمنتْ أنَّ الخطاب الإبداعي لا يمكن أن يكتسب حيويته -بل وجوده- إلا م ن خلال هذا المتلقي، ورغم تطرفها في هذه النظرة إلا أنَّ مما يخفف من ذلك أنها جاءت بوصفها ردَّة فعل للبنيوية التي أسرفت في الاهتمام بالنص، وألغت دور المؤلف والمتلقي من الممارسة النقدية، فأرادت أن تلفت النظر إلى هذا الركن المهم في هذه العملية، وأن تمنحه صلاحيات مطلقة وشبه مطلقة؛ لتخدم من خلال ذلك النص الإبداعي، وتتيح لدلالاته الغنى والثراء والتعدد والانفتاح.
وختاماً.. فقد حاولتُ في أجزاء هذا المقال الوقوف مع المناهج النقدية الحديثة وقفة حكم عدل، وإذا كنت في مقالات سابقة قد وجَّهتُ إليها سهام انتقادٍ لا تخفى على أدنى متأمل في بعض أفكارها ومبادئها وخلفياتها الفكرية والثقافية، فإني أعود هنا لأؤكد على أنَّ هذه المناهج ليست شرا محضا، بل إن فيها جوانب إيجابية ومضيئة، وليت نقدنا العربي يتبصَّر في هذه المناهج، ويدرك ما فيها من نقاط قوة فيفيد منها في تأسيس منهج نقدي عربي صحيح سليم، متحاشياً ما تضمنته من سلبيات وجوانب ضعف، ليولد لنا منهج نقدي عربي معاصر، خالٍ من التبعية العمياء، ومفيداً مما لدى الغرب من رؤى وأفكار، فليس مطلوباً منا اختراع العجلة، بل محاولة دفعها والسير بها نحو الاتجاه الصحيح.
omar1401@gmail.com
الرياض