الصوت والسمع فعلان يرتكزان في وجودهما على بعضهما البعض إلى حد أن غياب أحدهما ينفي بالضرورة كينونة الآخر.. هما وجهان لعملة واحدة بامتياز.. وقد شكلت هذه العلاقة معضلة فلسفية قديمة شغلت العقول لزمن طويل، معضلة تسأل: إن تهاوت شجرة في غابة تخلو من البشر، فهل يصدر ارتطامها بالأرض صوتاً ؟ بمعنى أن الأذن البشرية إن لم تتلق الذبذبات الصوتية التي تنتج عن وقوع الشجرة، فإن مفهوم الصوت ينتفي من أصله، وتبقى الموجات الصوتية تدور ويبقى احتمال سماعها قائماً دون حدوثه بالفعل. ارتطام الشجرة بالأرض من الممكن أن يـُـسمع كصوت، إن كان هناك من يسمع.
الظاهرة (الصوتسمعية) عجيبة، فهي لا تعمل إلا في وسط مادي، لذا فهي ظاهرة أرضية، بمعنى أننا لو خرجنا عن نطاق الغلاف الجوي للأرض لفوجئنا بأن الكون حولنا صامت تماماً: حتى انفجارات النجوم لا يسمع لها صدى..! الأذن البشرية لا تلتقط الموجات الصوتية في وسط فارغ من الهواء، لذا فإننا، ونحن على الأرض، لو صرخنا تحت ناقوس زجاجي مفرغ من الهواء لما سمعنا أحدا! كما لو أننا غصنا تحت الماء لتشوهت الأصوات المسموعة ولانقطعت صلتنا السمعية بعالم ما فوق الماء. والشرط في اكتمال هذه الظاهرة هو الأذن السليمة بعضلاتها وقنواتها وأغشيتها وطبلتها التي تتجاوب مع الأصوات وتحولها إلى إشارات كهربائية يستطيع المخ التعرف عليها، وكما يقولون في هاواي: إنه الفراغ الداخلي الذي يعطي الطبلة صوتها.
الصوت والسمع ظاهرة متحدة بطبيعة الحال، وهي ظاهرة علائقها اعتمادية لا يمكن فصلها، وكما يقول الشاعر دبليو بي ييتس (W. B. Yeats): «كيف لنا أن نعرف ما هو الرقص بدون الراقص؟ «وقد يسمع الحيوانات والطيور الأصوات المحيطة بهم، لكنه سمع لا تفسير له، فعملية تأويل الصوت هي أساس اكتمال السمع. اصغ إلى ما حولك من أصوات لساعة واحدة ولسوف تتعجب من هذه المنظومة الهائلة من الصخب المتداخل: تفتح عينيك في الصباح فإذا بحشد هائل من الأصوات بانتظار عودتك من عالم السبات العميق: هدير جهاز التكييف في غرفة النوم، خشخشة الغطاء وأنت تكشفه عنك، صرصرة السرير وأنت تغادره، وقع قدميك على الأرض وخفق نعالك وأنت تسير إلى المغسلة، صرير الباب وأنت تفتحه وتغلقه، خرير الماء يتدفق من الصنبور.
تقف لتجهز كوباً من القهوة فيتصاعد صوت غليان الماء، وصوت فتح الدرج، وغرف البن وصب الماء ودوران الملعقة، وكلما أصغيت أكثر تصاعدت أصوات دقيقة في اختلافاتها، كلها إشارات لها معان وتأويلات تساعدك على التفريق بينها بدقة متناهية. مئات الأصوات الصادرة من كل ما حولك ومن كل حركة تقوم بها، تسمعها في ذات الوقت: العصافير تزقزق في الحديقة وموتور السيارة يزمجر وأصوات المذياع تتصاعد، ولا يطغى صوت على الآخرين، وتظل الخلفيات متدفقة حتى لو ركزت على صوت دون غيره. كل هذا الصخب قد تردده التذبذبات الهوائية المضغوطة منفرداً أو مجتمعاً، فتسمعه الأذن وتدرك مصدره وحدته فور سماعه وتترجمه في جزء من الثانية.
تعاني الممثلة الأمريكية مارلي مارتن ( Marlee Matlin ) من الصمم التام، وعالمها الداخلي الصامت لا يستقبل أية ذبذبات خارجية. عندما استخدمت ذات مرة جهازاً يمكـّـنها من سماع الأصوات صعقت من هول المفاجأة، ليس لأن الأصوات التي سمعتها لأول مرة أزعجتها، بل لأنها سمعتها كلها دفعة واحدة، وبما أنها لم تتمكن من تأويلها وتصنيفها، فهي لم تستطع تمييز ما تسمع. كانت تهرع خائفة إلى زوجها إن رن جرس الباب أو الهاتف أو عربة الآيس كريم أو ارتفع مواء القطة أو نباح الكلب تطلب منه تفسيراً لما يلتقطه الجهاز من ذبذبات مصدرها مجهول في دماغها.
دون ترجمة ومرجعية مفهومية للأصوات يصبح السمع أداة تشويش وصخب بلا معنى. بعد أيام قررت مارلي مارتن أن تضع حداً لهلعها وعذابها، وفضلت أن تغلق الجهاز وتلوذ بالصمت فراراً من ضوضاء الأصوات التي تمازجت وتزاحمت في سمعها دون أن يكون لها مرادفات دلالية في وعيها. إذا تعطلت آلة الاستقبال هذه تحول العالم الصاخب إلى مكان يتحرك في صمت مطبق. هذه هي حال «الأطرش في الزفة»، مهما علا دق طبولها فلن يخترق حواجز صممه!
يعتمد الاتصال بين البشر على هذه الظاهرة شديدة الحساسية والخصوصية، وإن عجزت الأذن عن نقل الموجات الصوتية للدماغ، يعجز الدماغ بدوره عن تمكين اللسان من إنتاج الكلام: وعليه فإن من لا يسمع، لا يتكلم! مهارة التحدث تنمو مع الإنسان وتتطور تباعاً، فإذا ما مضى وقت نموها وتطورها، فإنه من الصعب استرجاعها حتى وإن كان الجهاز السمعي في حالة جيدة. ويبدو أن مرحلة ما بين سن الثانية إلى السابعة هي مرحلة غاية في الحرج يكتسب خلالها الإنسان قدرات النطق بشكل طبيعيى وتلقائي مثل المشي.
في القرن الثامن عشر كانت للدكتور الفرنسي جان مارك إيتار (Jean Marc Itard ) قصة في غاية الأهمية مع غلام مستوحش كان مفقوداً منذ طفولته المبكرة، لكنه عاش في الغابة في جنوب فرنسا مع الحيوانات حتى تخطى السن السابعة. حين تم القبض عليه أودع في معهد الصم والبكم وتولاه إيتار بالرعاية والتدريب لنقل عقله البشري من مراحله البدائية إلى مراحل العصر المتقدمة آنذاك.
وحاول إيتار على مدى خمس سنوات أن يُعلّم فيكتور (غلام آفيرون المستوحش Victor of Aveyron) كيفية نطق أو استخدام اللغة البشرية، لكنه فشل في جعله يتخطى مفردات بسيطة، ثم أعلن عن اعتقاده بأن الانفجار اللغوي عند البشر يبدأ مبكرا، لكنه يخبو ويضيع إذا لم يتم استغلاله في وقته، وهذا يفسر لنا صعوبة تعلم اللغة الثانية مقارنة باللغة الأولى إن تأخر التدريب عليها إلى ما بعد السابعة من العمر، لذا كان العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ليس لأن ذلك العلم لن ينسى كونه محفوراً على الحجر، بل لأن عملية النقش يجب أن تسبق عملية التصلب الحجري التي ستعيق النقش وتفتت الصخر.
لا بد للغة من بيئة كلامية تعطي الأصوات صيغاً ومفاهيم مشتركة، بيئة تواصلية تحفز وتقولب وتمنح المعاني المتفق عليها. هذا الجانب التواصلي يعزز طبيعة العلاقة الاعتمادية بين الصوت والسمع: الصوت لا بد أن يُسمع ليكون صوتاً، والسمع لا بد أن ينتج عنه صوت بكونه سمعاً .. وهكذا. أي تعطيل يصيب هذه المتوالية يتسبب في خلخلة التواصل والتفاهم والعلاقات الإنسانية بشكل عام.
لا زلت أذكر وأنا في المرحلة الجامعية صوت أساتذتي الذين كانوا يدرسون لنا عن طريق الدائرة التلفزيونية، يجلسون وحدهم في غرف منفصلة فلا يعرفون إن كانوا يحادثون طالبات حاضرات أم كراسي فارغة في قاعات بعيدة. كان أستاذي الدكتور عبد العزيز حمودة رحمه الله أكثرهم قلقاً وتململاً من محادثة الكاميرا في غرفة منفصلة عن قاعة الدرس، وكان يتوقع أننا قد نغادر المكان ونتركه يحدث نفسه، لذا نجده يسأل بين الفينة والأخرى وهو يدق على المايكروفون أمامه:
هل ما زلتن في القاعة؟
أنا أتحدث، فهل هناك من يسمع؟
lamiabaeshen@gmail.com
- جدة