** لا ينعزل الموقف الأخير عن الموقف الأول؛ ففي هذا تجلى النبيل وفي ذاك برز الأصيل، ولم تزده الأعوام التي تجاوزت ربع قرنٍ إلا إضافة نبل وتجذير أصل علت بهما مكانتُه وتفوقت إمكاناته.
** سعى إليه صاحبكم قبل أكثر من ربع قرنٍ ولا يدري كيف حصل على هاتفه وطلب منه موعدًا لـ» قراءة في مكتبة» فاستقبله في منزله بحي العليا حفيًا لا تنقصه الجدة واللباقة، ولفت نظرَه فيه صوتُه الجهوريَ؛ فكأنه الأستاذ في مدرجه والخطيب في منبره، وتحاورا طويلًا ، وما تزال صورهما معًا في المكتبة ضمن مقتنياته.
** دعاه للكتابة المنتظمة في صفحات الجزيرة الثقافية فالتزم بزاويته العتيدة «رؤى وآفاق» يكتبها بخطه «الفريد» ويحضرها بنفسه داخل ظرف جديد في وقت شبه ثابت، وربما أذنت ظروف العمل بالتقائهما في القسم الثقافي بمبنى الجزيرة القديم على شارع الناصرية العام وربما لم؛ فبقيت علاقتهما وثيقةً دون أن تتجاوز أستاذًا بتلميذه وكاتبًا بصحيفته ومحررها.
** سارت الأمور بما تشاء، وجدّت متغيرات، وتوقفت الزاوية الوفية مع المستجدات، وبقي في ذهنه موقف صاحبها الذي لم يتبدل بالرغم من تبدل الكثيرين فلم يعنه ما مرَ من ظروف ومن تبدل من شخوص، وظل معتدًا بنهجه التراثي التحقيقي القريب من مدرسة الأصالة المخلصة للغتها وتاريخها والمحتمية بجذورها وبذورها، ولم يخض في عرض أحد أو يسفه أحلام آخرين، ونجا- كما نجت صفحات الجزيرة- من المعارك المفتعلة حول الحداثة والحداثيين التي آذت أسماءً وآذنت بفرقةٍ وأذاعت شبهات.
** استمر وفاؤه عنوان سيرته ورفيق مسيرته، واعتزّ حين وجده يتصدر حضور مناسبةٍ حسبها عامة فإذا هي مخصصة للاحتفاء بصاحبكم، وقد نظمها ابنه الصديق الغالي الأستاذ محمد،وكانت له كلمة عفوية تستجيب لمعايير الجمال في ذاته، ثم فاجأه عندما زاراه في منزله دون توقع إثر عارضٍ ألمّ به، ولا يعلم كيف عرفا بمرضه ولا كيف اهتديا إلى منزله؛ فقد ظل الأمر خفيًا على القريبين لعدم رغبته في إزعاج الأصفياء الأوفياء، ومايزال هذان الموقفان يؤثران في أعماقه.
** حكاياتٌ تنتظمها خلاصةٌ غير عابرة؛ فالأستاذ الدكتور عبدالعزيز الفيصل ليس أكاديميّ بحثٍ وتدريسٍ وتنقيب ورحلات فقط، وليس ذا سبقٍ وتميزٍ في تعيين المواقع الجغرافية كما وردت في المعلقات والخوالد الشعرية فحسب؛ بل هو قبل ذلك وفوقه ومعه إنسانٌ يسكنه الحب والإخلاص والصدق والوفاء؛ ما يجعل هذا الملف «المتأخر» قطرةً في بحره العذب.
* شكرًا أبا محمد وعذرا.