كنت قبل الآن قد ذكرت شيئاً ذا بال عن حال أسس تأصيل المطروح في السياق العلمي والمنثور الأدبي، وذكرت هناك أن (معاجم اللغة)، وكذا كتب (تراجم العلماء)، وما تركوه عبر العهود، تُعد مرجعاً جيداً للوقوف على أصول الآثار وقواعد الأدلة فيما من شأنه إثبات العلم وتأصيل نثار الأدب وأولوياته.
وكنت قبلاً قد بينت دلائل القول على أنه لا غنى بحال ما عن تراث الأقدمين، وأنه فيما ترك المتأخرون هذا وذاك غدا أمرهم يميل للإنشاء ومجرد الخطاب المباشر والتلاسن في كثير من المطروح.
وبيان هذا أننا فيما نتابع مئات الكتب من دور النشر، وكذا المقالات والنشرات العلمية والأدبية وكتابات الزوايا، نجد حقيقة حالاً تحتاج إلى العلم في نظر آثار ما خلفه الأقدمون الذين يقضي الواحد منهم (20 عاماً) و(16 عاماً) و(10 أعوام) لتأليف كتاب من جزء أو أجزاء.
والواحد من المعاصرين قد يقضي شهراً أو أكثر بقليل ليتم له ما أراد من تصنيف وتأليف، دع ما قد يكون فيه من تكرار أو معاودة لكتاب آخر بأسلوب وطرح آخر، وقبل كذلك ما يورده من أدلة أو إثباتات ليست محققة أو مؤصلة أو مدروسة لبيان حقيقتها من عدم ذلك.
ولكي نعتبر جميعاً بمثل هذا أورد هنا جملة لا بد لي من إيرادها، كتبها أو قالها أو أشار إليها علماء وأدباء ولغويون وكتاب، ويدل كل ذلك على أن الأمر وإن لم يكن قد اتسع الخرق على الراقع فإنه يوشك أن يكون.
أولاً: (العلم بحقيقة النسبة)
يشير بعض الكتّاب والأدباء إلى كتاب (أخبار الحمقى والمغفلين) أنه لابن الجوزي، وهذا خلل واضح، فليس الكتاب له بدلالة الأسلوب والأمثلة والوقائع الواردة في الكتاب، فهي لا تمت له بصلة، ومثله كتاب (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة، ومثله كتاب (العشق) لابن الجوزي، ومثل هذا فتش ولا حرج.
ثانياً: (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول..)
زعم كثير من الأدباء والنقاد (عفواً) من دراسي العمل الأدبي أنها قيلت أمام النبي صلى الله عليه وسلم في (المسجد)، قالها كعب بن زهير معتذراً، وليس كذلك؛ ففي سندها انقطاع وجهالة؛ ما يعني أنها منحولة، وشدد ابن كثير وغيره على هذا..
ومثلها قصيدة (طلع البدر علينا...)، وأنها قيلت عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهناك من قال بعد قدومه عليه الصلاة والسلام من تبوك. ومثل هذا كثير يرد وهو منحول.
وطالع الشعراء وطالع الشعر فيما كتبه عنهم وعنه ابن قتية وابن رشيد وسواهما، وإذا أردت وأنت مكيث سديد الفهم قوي الملاحظة والدراسة فانظر كتاب (الأغاني)؛ فغالب ما يورده متقوّل منحول.
ثالثاً: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهَِ}
فكثير من العلماء وخطباء الجوامع والمحاضرين والدعاة يوردون هذه الآية الشريفة مدللين بها على لزوم التقوى والقيام بحقها دون مناقشة أو تأصيل لها أو معالجة، وهذه الآية الكريمة (منسوخة) بقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فإن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما نزلت الآية الأولى قالوا: من منا يقوم بهذا؟ (في رواية طويلة) وحينها نزلت الآية الثانية فنسخت ذلك الحكم، لكن على المؤمن أن يجد ويجتهد ويبذل في لزوم التقوى.
ومثل هذا حديث (تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ أو الفرد بسبع وعشرين درجة) فهو منسوخ بفرضية صلاة الجماعة فرض عين لأحاديث كثيرة نسخت هذا الحديث، منها: (لقد هممت..) (وهممت) هنا أردت وعزمت، ومنها (ما كنا نرى يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق).
والآثار في هذا كثيرة متوافرة.
فمعرفة حقيقة الناسخ والمنسوخ من الآثار والمطلق والمقيد والعام والخاص ومعرفة دلالة اللغة من الضرورة بمكان مكين، لكن هذا يغيب عن كثير من بال العلماء والباحثين والدعاة.
والعلم وحده لا يكفي، وكذا اللغة والأدب والتاريخ، بل لا بد من الفهم الجيد وصفاء الذهن وقوة الملاحظة وسداد البديهة الحية، وإلا لأصبح كل عالم وكل أديب وكل كاتب إلخ هو: ابن بجدتها، (وكنت قد بنيت أن جودة الرأي وحسن الخلق وكثرة المطالعة الهادئة مع التجرد والأمانة وحرية النظر كله يقود إلى الوصول إلى دفع الجهل ولو طال الزمن).
رابعاً: (بل هذا ذكره ابن حزم، أو ذكره ابن تيمية، أو ذكره أحمد أو الشافعي.. إلخ)
فنجد كثيراً مثل هذا حتى في الرسائل العلمية (الدكتوراه مثلاً). نعم هذا صحيح، لكن أين ما ذكره ابن قدامة المقدسي؟
وأين ما ذكره مثلاً ابن فرحون؟
وأين الأدلة؟
وما درجتها؟
وأين مصدرها الأصلي؟
ثم أين (الرأي) الذي يمكن بذله؟
أين ما ذكره الشاطبي؟
وأين ما ذكره السرخسي؟
أو ما ذكره النووي أو ابن حجر؟
لا جرم، نجهل - عفواً أجهل - كيف يتم هذا اليوم؟
وحقيقة القول هنا كما هي حقيقة القول هناك أن الأمر لا يعدو أننا (عالة على من تقدم من كبار العلماء عبر تجرم القرون).
فلعله الجهل.
أو لعلها العجلة..
أو لعله حب الصيت..
أو لعله حب النتيجة مهما تكن تلك النتيجة..
ومن (باب هامش) الفوائد فقد سمعت أن روائياً كتب روايته خلال يوم واحد، وحاول إبرازها، فتم له ذلك بل نال جائزة عليها وطارت به الصحف وأشادت به، ثم تبين بعد وقت أنها مذكرات، ومجرد عرض ليس إلا.
وتفسير هذا - دون جدل - أن الحس النقدي لا شيء، وأن التذوق الفني ليس بذاك.