أما السبب التاريخي الذي تعزو إليه سعاد المانع بروز التحيز ضد المرأة في التراث العربي، والانتقاص منها، وتصوّرها عورة... إلخ فهو تعرُّض فكرة الصّون والغيرة على المرأة للغلو والمبالغة بعد القرن الثاني الهجري حتى شمل عدم ذكر أسماء النساء النبيلات في الرسائل وظهرت إشارات في الشعر إلى الرغبة في موت البنت وعدّه نعمة بسبب الغيرة والحمية وخشية العار (أمثلة من البحتري وكشاجم وابن زيدون) وتلاشى ذكر المرأة في الشعر في غير الغزل والرثاء. وقد كان تطور المجتمع وكثرة الجواري وأبناء الإماء من ذوي السؤدد والمكانة قرين دخول مؤثرات ثقافية أجنبية فارسية ويهودية وغيرهما، في تعليل المانع لما اعتور صورة المرأة ثقافياً من السلبية والانتقاص والعار.
ولم تجد المانع في الفكرة المتداولة في النقد النسوي عن تحيز اللغة ضد المرأة ما يقنع، فالمظاهر اللغوية الموصوفة في دائرة ذلك التحيز لا تبرأ من القصور الذي ينتقص ما يراد لها أن تبرهن عليه. فالقول –مثلاً- بأن الأصل في اللغة التذكير لا التأنيث، فيما تفصح عن ذلك مقولة ابن جني، لا يصح الاستدلال به في معنى الذَّكَر الحقيقي المقابل للأنثى، وإنما هو كما قال سيبويه إشارة إلى المبهم، إلى «الشيء» والشيء يدل على الذَّكر والأنثى. أما مظهر جمع المذكر السالم الذي يحرم على المرأة وعلى غير العاقل والحيوان الدخول إليه، وتخصيصه بالمذكر العاقل، فإن بعض أسماء الذكور مثل طلحة وأسامة... إلخ يستوون مع المرأة في تحريم صيغة جمع المذكر السالم عليهم. ومثل ذلك عدم إلحاق «تاء التأنيث» بمثل كلمة «عاقر» الذي رأت فيه إحدى الناقدات مظهراً لتمييز اللغة ضد المرأة، فاللغة العربية تجعل الصفة من بعض الصيغ (مثل عاقر) صيغة مشتركة بين الأنثى والذكر.
ولهذا تستنكر سعاد المانع ما يذهب إليه محمد نور أفاية وعبد الله الغذامي ومحمد برادة ورشيدة بن مسعود من البحث عن لغة مؤنثة والدعوة إلى تخليص اللغة من ذكوريتها التاريخية وتأنيث الذاكرة بناء على افتراض خصائص لغوية مرتبطة بطبيعة المرأة البيولوجية. فاللغة المؤنثة على هذا النحو ليست لدى المانع سوى فكرة مبهمة غامضة لا تشف عن تحديد للصفة التي تكون بها سمات اللغة الأنثوية المفترقة عما يمكن أن نصفه بلغة ذكورية. أما خصوصية الكتابة النسوية عند المانع فإنها نابعة من خصوصية وضعها الاجتماعي واختلاف ظروفها، وتظهر في اختيار موضوعات الكتابة وفي الرؤية للعالم وللنفس البشرية من وجهة امرأة. وتجد المانع في تصورات اللغة الأنثوية، في النقد النسوي العربي، من زاوية الاختلاف البيولوجي للمرأة، موقفاً تقليدياً يتبنى حرفياً ما طرحته الناقدتان النسويتان لويس أريقاري وهيلين سكسو دونما مناقشة أو تمحيص، أو خلوص إلى نتيجة واضحة ومحددة وذات عموم.
وإذا اختلفنا مع بعض أطروحات الدكتورة سعاد المانع، فإننا لن نختلف معها حول مقاومتها للتعميم والاستقراء الناقص ونقدها للتأويل المتعسف. وسنقف موقف الإعجاب بشهيتها المعرفية التي أنتجت حماسها واصطبارها وانكبابها في وجهة التقصي لمساحة غير يسيرة من المدونة الثقافية العربية القديمة، وعديد من مدونات الشعر والقصة الحديثة ومرجعيات النقد والنظرية. ولا يتخلف عن هذا الموقف ما نراه بشأن تضافر دراسة صورة المرأة لديها، مع جهدها في قراءة أدب المرأة ومنتجاتها الإبداعية، وهو التضافر الذي استلزم الجدل والمراجعة والنقد للأطروحات النقدية النسوية بوصف هذا النوع من الجهد عبئاً إبستمولوجياً لتحرير الموقف المعرفي للفاعل النقدي وبلورة قناعاته التي تغدو فعلاً لإنتاج معرفة بالنقد والنظرية.
ومثل هذا الإعجاب سيتضاعف لدينا أمام موقفها النقدي تجاه التبني عربياً للمقولات النقدية النسوية الغربية دون مناقشة. وهي وجهة ترينا تضاؤل بعض المقولات النقدية العربية ذات البريق والوهج بإعادتها إلى مصادرها الغربية التي يكتنفها في سياقها جدل لم تفد منه –للأسف- الممارسة النقدية العربية، لأنها لم تتمرس على المعرفة بحسبانها ناتج الجدل والمطارحة وفعل المحاورة النقدية، فظلت عاجزة عن إنتاج المعرفة النظرية والمنهجية النقدية، ومستسلمة –فقط- لمتابعتها ونقلها. ولا ينفصل هذا الموقف النقدي لاستعارة المقولات النقدية وتبنيها دون فهم أو تمييز عن جملة موقف المانع المعرفي في الترامي إلى ما ينهض بالمنهجية النقدية ويحررها معرفياً، خصوصاً في جهة التحاشي للموقف الإيديولوجي الذي تغدو فيه الأفكار سلطة مهيمنة تحول دون الاكتشاف المتجدِّد وتغيير القناعات بفعل البحث.
ولا تختلف عن ذلك التفاتة الدكتورة إلى اختلاف الثقافات الذي يحيل على صور مختلفة للمرأة ودرجات متفاوتة من الكراهية لها وغمط حقوقها. إنه اختلاف بين المجتمعات وبين العصور وحتى بين أفراد الناس. وأتصور أن الالتفات إلى اختلاف الثقافات والمجتمعات في الموقف من المرأة هو الوجه الآخر لما تتضمنه النظرية النسوية والحركات النسوية نفسها من اختلاف وتنوع على الرغم من اجتماعها حول رفض الهيمنة الذكورية على المرأة وتهميشها. وهو لدى سعاد المانع وجه متصل برفضها لهيمنة أطروحات النظرية النقدية الغربية والانقياد إليها دون تمحيص. لكنه –أيضاً- وجه للدلالة على أن ما ينتجه الوعي النسوي من وعي إيجابي تجاه المرأة سيؤدي إلى التغيير الثقافي والتصحيح للتصورات السلبية، فاختلاف الثقافات في تجاورها المكاني مثل اختلافها في تعاقبها الزمني دليل على الحدوث والتجدد والتغيير تماماً كما الاختلاف والتنوُّع.
وبالطبع فإن هذه الوجوه القمينة بالتقدير في جهد سعاد المانع النقدي النسوي، ترافق بعض الأطروحات وما استندت إليه أو نتجت عنه منهجياً، مما يقبل الجدل والاعتراض ويبعث على الاختلاف معها. وذلك هو موضوع الحلقة الأخيرة في الأسبوع القادم إن شاء الله.
- الرياض