هذه نماذج من شعر الحكمة الذي سرى مسرى الأمثال. وحقيقة فقد تجنّبتُ الشعراء الذين اشتهروا بالحكمة كالمتنبي لغزارة إنتاجه في هذا المجال وذيوعه على كل لسان، وكذلك تجنبت الشعراء الحكماء؛ أي الذين جُلّ شعرهم حكمة كالشافعي وصالح بن عبد القدوس، ولم أحصر هذه الاختيارات في شعراء العصور المتقدمة ولا المشهورين منهم فحسب بل طعّمْتُ ذلك ببعض المغمورين منهم رغبة في التعريف بهم، كما أضفت إلى هذه الباقة ألوانا من الحكمة لدى الشعراء المعاصرين للتدليل على أن هذا الفن ليس حكرا على عصر دون عصر..
أبدأُ بقول محمود الوراق حاضا على الإيمان بالله بصدق وإخلاص:
تَعْصي الإله وأنتَ تُظْهِرُ حُبّهُ
هذا مَجَالٌ في القياسِ بديعُ
لو كان حُبّكَ صادقا لأطعْتَهُ
إنّ المحب لمن يحب مطيع
وكثير من الشعراء حثوا على التنقل وعدم الاستقرار في مكان واحد طلبا للمعالي، ومن هؤلاء أبو الفتح البستي إذ يقول:
وطولُ مُقام المرء في مستقرِّهِ
يغيّرُهُ ريحا ولونا ومطعما
وإذا كان العمل مطلوبا لطلب الرزق فلا يكون ذلك إلا بالاعتماد على الله، وهذا ما عناه أبو فراس الحمداني في قوله:
إذا كان غيرُ الله للمرءِ عدّةً
أتَتْهُ الرزايا من وجوه المكاسبِ
وإذا رزق الانسان فلا يكون بخيلا ممسكا لماله وإلا فسيكون خازنا له. يقول ثعلب:
إذا كنتَ جمّاعا لمالكَ مُْمْسِكا
فأنتَ عليه خازن وأمين
تؤديه مذموما إلى غير حامد
فيأكله عفوا وأنت دفين
وأدى ذم البخل لدى بعض الشعراء إلى ذم المال نفسه والتزهيد فيه، بل إن أبا إسحاق الصابي يرى أن المال والعقل لا يجتمعان، وهو في البيت التالي يشبه التقاءهما بالتقاء الضب والحوت:
الضَّبُّ والنّونُ قد يُرجَى التقاؤهما
وليس يُرْجَى التقاء اللبِّ والمالِ
بل إن التزهيد ليمتد إلى الحياة والتحذير من تقلباتها، وهاهو أبو البقاء الرندي يستهل مرثيته في سقوط الأندلس بتقرير أن بقاء الحال من المحال:
لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسان
هي الأموركما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
ومع ذلك ذم الشعراء العجز وإلقاء اللوم على صروف الزمان، ومن هؤلاء الرياشي إذ يقول:
وعاجزُ الرأي مضياعٌ لفرصتِهِ
حتى إذا فاتَ أمرٌ عاتبَ القَدَرا
وفي المعنى نفسه يقول محمود سامي البارودي:
إذا ساء صُنْعُ المرءِ ساءتْ حياتُهُ
فما لصروفِ الدهرِ يوسِعُها سبّا
ومما يتعلق بالعجز؛ الإهمال وعدم إتقان العمل الذي بين البحتري مساوئه بقوله:
إذا ما الجرح رُمّ على فساد
تبين فيه إهمال الطبيب
والجهاد في الحياة مطلب كما يدعو إلى ذلك الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي:
إن الحياة لشوكٌ وسطه زهر
فحطِّم الشوكَ حتى تبلغ الزهرا
وللأخلاق والحض على التمسك بحميدها أقوال كثيرة أورد هنا بعضا منها، فمن ذلك قول ذي الإصبع العدواني:
كلُّ امرىءٍ صائرٌ يوما لشيمتِهِ
وإنْ تخلَّقَ أخلاقا إلى حينِ
وفي الحضِّ على إسداء المعروف يقول الشاعر:
ازرعْ جميلا ولو في غير موضِعِهِ
فلا يضيعُ جميلٌ أينما زُرِعا
إن الجميل وإن طال الزمان به
فليس يحصده إلا الذي زرعا
وقد نَعَى الغزالي على الذين لا يستمعون إلى النصح ولا يعملون بالنصيحة فقال:
غَزَلْتُ لهم غزلا رقيقا فلم أجد
لغزليَ نساجا فكسّرتُ مغزلي
وحذر الدكتور زكي مبارك من نصائح بعض المغرضين فقال:
نصيحةُ بعضِ الناسِ غشٌّ مقنعٌ
وإشفاقُ بعضِ الناسِ ضربٌ من الحقدِ
وللشاعر الكويتي الراحل خالد الفرج بيت يحذر فيه من الغفلة وعدم أخذ الحيطة لما يجري في الجوار فيقول:
مَنْ حُلِقَتْ لحيةُ جارٍ لَهُ
فليسكبِ الماءَ على لحيتِهْ
أما دعبل الخزاعي فينصح الشعراء بتجويد أشعارهم لأن الشعر الجيد هو الذي يبقى بعد وفاة صاحبه:
يَموتُ رديءُ الشِّعر من قبل أهلِهِ
وجَيّدُهُ يحْيا وإِنْ مات قائِلُهْ
وأختم هذه المقالة ببيت للمغنية المشهورة في العصر العباسي الأميرة علية بنت المهدي وهي حكمة مهداة للمحبين كيما يكونوا معتدلين في حبهم قانعين بما يحصلون عليه من الحبيب خاصة إذا كان الحبيب خالصا مخلصا!
وقليل الحب صِرْفا خالصا
لك خير من كثير قد مُزِج