قلت في الموضوع السابق إن الحقيقة لا يمكن حصولها إلا عبر تحقيقها الإضافة ؛لأن الإضافة هي التي تصنع المعرفة،كما قلت إن خاصية «الإخبار» في المعرفة التي يُصّدرها لنا الدين وفق المذهب العقلي و العلماني لا تُعد حقيقة وفق الوصف الوظيفي للإضافة. باعتبار أن الحقيقة عند الشعوب ذات التفكير الديني تُستمّد من الكتب السماوية التي صاحبت الحركة الدينية الأولى للإرسال والاعتقاد. ولذا في هذا الجزء سأناقش مدى معقولية الفكرة السابقة وقبل التفصيل في هذا النقاش عليّ أن أتوقف عند مدخلين هما؛ إن المجتمعات الدينية كالمجتمع الإسلامي يتحكم في سير صناعتها للحقيقة الكتب السماوية، وبذلك يُصبح القرآن الكريم بالنسبة للمسلمين هو المصدر الوحيد الذي يُستمد منه آليات التحكم في سير الحقائق الدنيوية للإنسان. والقول بهذا الأمر يستند على فواتح الدساتير التشريعية العربية و الإسلامية التي تعتمد القرآن روح موادها التشريعية و القانونية. لكن ذلك الاستمداد يعبر من خلال وسائط «الشرح والتفسير و الفقه و التأويل « بمعنى أن البشرية حاصلة فيما يقدّم لنا بأنه أصل منزه من المعرفة الدينية. وتدخل البشرية هنا عبر آليات تفكيك المعطى المعرفي الإخباري المستورد من النص الأصلي للدين يُخرج المعرفة الدينية من مصدرها الإلهي إلى مصدرها التأويلي. وبذلك فما يُصدّر لنا باسم الدين يُصدّر عبر وسيط بشري غير معصوم وطبيعة هذا الوسيط ترفع عنه «حصانة التنزيه «،وتجعله مفتوحا للإضافة. و قد يعتبر البعض أن مفهوم الإضافة هنا لا يخرج من باب التوسع في التأويل. كما يعتبر أن الإضافة التي يحققها التأويل لايمكن أن تُخصص المعطى المعرفي الصادر من القاعدة الدينية كمتحكم في صناعة الحقيقة أو تطويرها؛لأن الإضافة عبر التأويل هي توسيع للتشريع الاجتماعي وليس للتشريع العلمي و العقلي. و الحجة في ذلك أن الإضافة عبر التأويل تخضع لقاعدة بمعنى أن الحرية هاهنا مشروطة،و أي شرط يحجز حرية الإضافة يُخرج الإضافة عن شرعيتها التجديدية. أما المدخل الثاني فهي مسألة الإخبار. يرتبط غالبا مضمون الإخبار في ذهن التلقي «بالثبوت» أو ما أسميه أنا»وهم الثبوت»؛فكل إخبار يتضمن «وهم الثبوت»؛وهو وهم يتم عبر اقتران «الإخبار» بالمرسِل العليم و النص الكامل و تحول المتلقي من فاعل إلى سلبي وهو تحول حاصل الاحتراز لعدم الوقوع في «تكذيب» النص الكامل أو «خيانته». وبذلك فمعرفة الإخبار تقع في ثلاثة مآزق هم؛ مأزق المرسل العليم، ومأزق»قدسية النص الكامل» الممثل لمعرفة الإخبار،و مأزق «المتلقي السلبي». وهي مآزق قد يعتبرها البعض قاطعة و مانعة للإضافة على «معرفة الإخبار». إن قاعدة «جاهزية التوثيق» هي التي تؤدي إلى نشوء تلك المآزق. وهذا ما يُحاجج به أصحاب المدرسة العقلية و العلمانية في إبعادهم المصدر الديني عن التحكم في صناعة الحقيقة أو تطويرها. إن فكرة التوثيق القبلية هي تسقيف أو تحجيز لحرية التفكير و الإبداع و التعبير،ولهذا يعتبر أصحاب المدرسة العلمانية و العقلانية المصدر الديني لايملك كفاية لصناعة حقيقة دنيوية بطريقة تقنع العقل و العلم. ينتقل المعطى المعرفي عبر العديد من مستويات التوثيق؛ ويمكن أن نقسم هذه المستويات إلى قسمين مستويات رئيسة مستويات اشتقاقية، أما الرئيسة فهي مستوى الإله، ومستوى الوحي ومستوى المُبلّغ، والاشتقاقية هي مستوى الشارح ومستوى المُفسِر ومستوى المؤوِل ومستوى الفقيه. وبذلك سنرى أن المعطى المعرفي القائم على «معرفة الإخبار» لا يخضع للتأثير الإلهي المعصوم من النقص والمُحصّن بالكمالية؛ إنما يتعرض لأربعة مستويات من التفكيك وإعادة الصياغة؛ لتأهيل المعطى المعرفي الإخباري للفهم والواقعية. وقد يسأل البعض وهل إخضاع المعطى المعرفي الإخباري لمستويات التفكيك وإنتاج الصياغة للفهم والتطبيق الواقعي فيه إضرار أم إنفاع؟ والإجابة على هذا السؤال تتعلق بدكتاتورية أو ديمقراطية المتحكم في كل مستوى من مستويات التفكيك وتأهيل المعطى للفهم والواقعية. إن الإنفاع يقع متى ما تحول النص الناتج من حركة التفكيك إلى محرض على ثقب سقف المعطى الإخباري للكشف والاستكشاف. و الإضرار يحدث متى ما تحول النص الناتج من حركة التفكيك « الشرح والتفسير والتأويل والفقه» إلى نص معادل لقدسية النص الرئيس،ليصبح للمعطى المعرفي الإخباري إلهان بدلا من إله واحد. وبذلك كلما تعددت النصوص المقصود منها للتحول إلى معادل للنص الرئيس تعددت الإلهة المتحكمة في فتح وغلق النص المشرّع للفاعل النهضوي واشتراطات قبوله وتنفيذه، مما يغلق المعطى المعرفي المستورد من المصدر الديني؛وهو ما يٌفسد شرعية الإضافة بمفهومها العقلي والعلماني. قد يرى آخر أن تعدد مستويات تفكك المعطى المعرفي المبني على الإخبار هو دلي ل انفتاحية النص الرئيس، و المشكلة هنا لا تتعلق بالنص الرئيسي إنما المشكلة تكمن في دكتاتورية النص الناتج من مستويات التفكيك-الشرح والتفسير والتأويل والفقه- وتنشأ دكتاتورية النص الناتج عن مستويات تفكيك المعطى المعرفي الإخباريّ عبر أمرين تحول الصانع الأول للنص الناتج عن التفكيك إلى «فاعل عليم» مما يحوله إلى بدل كل من كل للمعلم الرئيس والأمر الثاني رفع نص الفاعل العليم إلى «مرتبة المقدّس» وفق اعتبار بدل كل من كل. وبذلك يظل الفاعل العليم صاحب الشرح أو التفسير أو الفقه أو التأويل بنصه المقدّس هو المتحكم في مسار العامل النهضوي وفعالياته –المؤثِران في صناعة الحقيقة الدنيوية- عبر العصور،لنجد أنفسنا أمام مقدّس مصنوع. يُوجب التصديق المطلق كونه مستمد من المصدر السماوي، ويُوجب الإتباع الخالص كونه حاصل الصانع العليم بدل كل من كل ، كما يوجب الاستسلام لوصاياه كونها الأقدر على رسم منهج تشريعاته،وهو ما يحول المتلقي إلى سلبي مقيد بدائرة من الحلال والحرام. إن الإضافة في مجال الحقيقة العقلية والعلمانية تستمد شرعيتها من ثلاثة أشياء «التحرر من المقدّس العاطل» أي أن البحث عن الحقيقة وصناعتها تلزم الاستقلال الفكري والشيء الثاني «الشك» الذي لا يتحقق إلا من خلال التمرد على مصداقية النص المتحكم في الحقيقة الواقعة، والشيء الثالث هو «الحرية».
جدة
sehama71@gmail.com