(1)
لطالما شكلت الكبسة، نعم الكبسة التي هي أكلة سعودية، شكلت بالنسبة لي عالماً عصياً على الفهم، لا يمكن ولوجه بسهولة، كما لا يمكن فهمه وسبر أغواره. إذ لغاية اللحظة، لم أستوعب كيف يتحول طبقٌ، مكوناته الرئيسية، هي الأرُز ولحم الضأن وبعض التوابل، الى طبقٍ وطني يجمع حوله كافة أفراد المجتمع دون تفرقة أو تمييز.
كيف بعد أن يدلق في الطبق الكبير الدائري، يصمت الجميع وتتحرك الأيدي بشكل منظمٍ لا يضاهيه الاستعرض العسكري الشهير للجيش الصيني.
غير أن الآكل، عادة، له سطوة، سواء على العقول أو الأعين أو القلوب.
فالمثل الشهير يقارب الأكل بأنه أقرب الطرق وأقصرها الى قلب الرجل، الذي يقرنه بالمعدة، وأضيف الخاوية دوماً.
مثلٌ يتكرر في كل الثقافات كما نقرؤه في كافة اللغات الحية والميتة.
المثل نفسه، كان يقول لي أستاذي في الجامعة الأب أنطوان مساميري أنه موجود في كافة اللغات السامية مثل السريانية والآرامية والكلدانية.
الحضارات التي سبقتنا، كان لها أطباقها، ربما لم تكن بهذه الوفرة التي هي اليوم.
لكن كانت هناك أطباق لا بد أنها كانت مشهورة في العالم القديم.
في واحد من أهم الكتب حول المطابخ القديمة (كتاب المطبخ اليهودي) صدر عن جامعة هارفرد وترجم للفرنسية لمؤلفته كلوديا رودن وهي أستاذة في الأنثروبولوجيا في كل من هارفرد وأكسفورد.
ذكرترودن أن هذا المطبخ الذي يمتد على مساحة التاريخ اليهودي بكامله، لم يمت بعد.
أما الأهم من الأطباق التي أعتقد أن السيدة رودن قد « لطشتها « من المطبخ العربي والمشرقي عموماً فهي لا تحصى كما أنه لا يمكن اعتبارها أطباقاً يهودية ونسبتها الى المطبخ اليهودي لأنها أكلات شعبية مشرقية.
لكن على عادة اليهودي كل ما يمكن سرقته ونسبته لهم أمر ممكن طالما لا يوجد من يؤرخ لهذا في الطرف الآخر.
أما الأهم من كل هذا فقد كان لائحة المراجع التي تصل الى أكثر من ألفي مرجع علمي وأدبي.
إذ إن السيدة رودن عثرت على الكثير من الأطباق التي تقول إنها يهودية في روايات وقصص قديمة.
أي في الأدب.
الأدب الذي عليه أن يكون صورة شفافة للواقع.
مع ذلك، الكبسة التي على الموائد لم تصل لغاية اليوم، بحدود معرفتي الى الأدب.
وكأن كتّاب الرواية لا يأكلون، لا يشمرون عن سواعدهم ليحرق الأرُز الساخن أكفهم، أو أصابعهم التي تتغلغل في ثنايا (الذبيحة) الملقاة على تلةٍ من الجمال اللاهب.
تلك الأكف والأصابع نفسها التي تؤلف بأمر العقل الأدب.
والحق أنه لا يمكن الإحاطة بكل ما يكتب من أدب في المملكة، غير أن ما تمكنت من متابعته منذ ما يزيد على العقد، أي ما كان ينشر في بيروت وبعدها ما كان يصلني الى فرنسا، عبر أصدقاء، ثم أستراليا عبر أصدقاء أيضاً، لم يأت على ذكر الكبسة.
كيف يمكن لأدبٍ، الرواية تحديداً.
أن يسقط من صفحاته طبقاً يجمع عليه الشعب بكامله بما فيهم كتاب الأدب أنفسهم؟
(2) بعيداً عن فن الطبخ أو الطهي.
أجد أنه من الإجحاف بحق طبقكالكبسة إلا يكون جزءاً من الأدب السعودي.
أن يستبعد طبق كهذا من النص الروائي يعني أن النص بعيد عن الواقع.
كم سعودي لا يأكل الكبسة؟ أجزم لا أحد.
إذن لا بد للأدب من تدوين الواقع ولو مروراً بالمطبخ الذي هو الملحمة الإنسانية الأهم والأعمق وسلاح البقاء.
الأدب يتناول الأمور العميقة كما يعتقد البعض.
لكن مالذي يمنع أن تكتب رواية عن المطبخ؟ في ثقافتنا، وبالعودة الى كتاب السيدة رودن، لا ينشر عن المطبخ سوى كتب الوصفات المصورة.
هذه كتب مهمة لأنها بالنهاية المطاف توثيقية.
لكنها لا يمكن أن تكوِّن فكرةً واضحة عن كنه المطبخ.
الصورة مهمة لكن ما يهم هو موقع الطبق المصور في الثقافة.
في كتب التراث العربية عشرات الكتب والنصوص التي تتحدث عن المطبخ، خصوصاً تلك الكتب التي تندرج في أدب الرحلات.
وبعض الكتب التوثيقية التي تتناول العادات والتقاليد التي كانت متبعة عند العرب منذ القدم.
بالحقيقة يجعلني هذا التاريخ المجيد للمؤلفين العرب في تناولهم موضوع المطبخ، يجعلني أذهب في اعتبار أن كتابنا الحاليين لم يصلوا بعد الى فهم حقيقي لتناول الواقع بكافة جزئياته في مؤلفاتهم.
الروائية خصوصاً.
(3)
لا أذكر المرات التي تناولت فيها الكبسة.
أمي كانت تحضرها لكن بطريقتها، أو على الأرجح بطريقة لبنانية لن تمكنني من معرفة هذا الطبق في وقت مبكر.
كانت تقول لأخوتي قبل يوم واحد غدا « كبسة سعودية «.
لم أكن أعرف من أين تأتي أمي بطبق سعودي وهي لم تذهب الى هناك يوماً.
كنت أتساءل دوماً حول هذا الطبق الذي دخل الى بيتنا دون أن يكون لنا علاقة قرابة بأحد في السعودية.
هل هو الحج وموسمه حيث تختلط الجنسيات والثقافات التي يجمعها الإسلام تحت راية واحدة وفي بيت واحد؟ أم أنها أخذت الوصفة من إحدى الجارات اللواتي يعرفنها؟ المطبخ غريزة كما الكتابة.
تدخل المرأة أو الرجل الى المطبخ لا لتطبخ بل لتؤلف طبقاً كما يؤلف الكاتب قصصه.
كانت كبسة أمي شهية.
مطبخ الأم هو الذي يبقى محفوراً في ذاكرة الأبناء.
الأم هي أمهر الطباخين لأنها تطبخ من قلبها من شغفها ومسئوليتها في أطعام أطفالها.
المتزوجون، خصوصاً في مراحل زواجهم الأولى يعلمون جيداً هذا الشغف.
بعدها يعتادون أطباق زوجاتهن اللواتي مهما يصلن في قدراتهن المطبخية لن يصلن الى مستوى مطبخ الأم.
كانت كبسة أمي ولغاية اليوم كبسة.
لكنها لم تكن ولا مرة سعودية.
كنت أبحث فيها عن طعم السعودية لكني لم أجده أبداً.
العثور على الجذور الثقافية لمكان في طبق ما، لا يمكن إلا حين يتم تحضير هذا الطبق من قبل من ينتمي حقيقة لثقافة هذا المكان.
المطبخ ربما يكون المكان الأكثر تعقيداً في أي ثقافة.
ذلك أنه صنو الأدب يبقى على الدوام الوجه الأكثر مطابقة لواقع هذه الثقافة ولحياة ناسها.
(4)
لو لم يتخذ الملك عبد الله قراره بابتعاث عشرات الآلاف من السعوديين والسعوديات الى جامعات العالم قاطبة، لربما ما تذوقت الكبسة السعودية في حياتي. في أستراليا التي التقيت فيها سهل وياسر وغالب وعبد الله ومنصور وسلمان... وغيرهم.
تعرفت لأول مرة، عن كثب، على سعوديين خارج الرواية.
أشخاص من لحم ودم.
يجلسون في المقهى يضحكون يناقشون القضايا السياسية والحياتية وكذلك الثقافة ويتابعون، من هناك، في نهاية العالم.
أخبار بلدهم يوماً بيوم.
الذين عرفتهم من قبل كانوا كتاباً يناقشون قضايا بلدهم بشيء من التعالي، لا يغوصون كثيراً في الواقع.
أما الشباب الذين التقيتهم فقد كانوا جزءا من ذلك الواقع البعيد.
يهتمون بكل شيء حتي لو كان حادث اصطدام سيارة على الطريق الذي يوصل سكاكة بعرعر.
نعم الى هذا الحد.
(5)
ذهب الى المتجر الذي يملكه رجل أفغاني.
في أدلاييد تعتبر الجالية الأفغانية – الإسلامية الجالية الأولى في هذا البلد القاري.
يدل على ذلك مسجد أدلاييد الأقدم في أستراليا.
من هناك ابتاع اللحم الطازج الذي يذبح بحسب الشرع الإسلامي ثم الأرُز وعلبة بلاستيكية شفافة وصغيرة جدا تحوي أوراق زهرة الزعفران، آتية من الجبال الفاصلة بين إيران وأفغانستان كما دلَّت العبرات المكتوبة بالإنكليزية عن مصدر هذا المنتج.
مضينا الى المنزل الذي سيجتمع فيه الجميع الليلة على طبق الكبسة الذي يحضره سهل والذي قال لي أن البهارات تأتي مباشرة من السعودية وعلى طريقة والدته التي تحضرها بنفسها بخلطها مجموعة من البهارات بمقادير معينة لكيلا يغلب نوع على الآخر.
في المساء مدَّ ياسر قطعة نايلون على الأرض.
صب سهل كبسته في الطبق الدائري الكبير حوله جلس الجميع في صمت مطبق.
كانوا يتحلقون حول بلدهم ويأكلونه من لذة الشوق.
simnassar@gmail. com - باريس